في ظل الاوضاع الصعبة التي يمر بها العالم العربي يلقي كثير من الناس اللوم على الحكام العرب فهل صحيح يتحمل الحكام العرب المسئولية كاملة ؟ ومالبديل ؟
ويعتبر الأكاديمي العربي المعروف شفيق ناظم الغبرا في مقالة في موقع قنطرة أنه لا يوجد في هذه المرحلة ما يخفف من تدهور المشهد العربي الملتبس في ظل فشل سياسات التوطين والتنمية من جراء غياب الشراكة مع مواطن حر يتمتع بالقوانين التي تحمي حقوقه وتضمن مشاركته.
لكن بعض الدول العربية نجح في تحقيق خطوات تعطي بعض التفاؤل بإمكانات الإصلاح: فقد مارس المغرب إصلاحاً مقبولاً في السنوات القليلة الماضية بينما تتطور التجربة عبر الشراكة مع قوى إصلاحية جديدة، أما في تونس فقد نجح الإصلاح بعد الربيع العربي في إدارة حالة ما بعد الثورة. هذه الأبعاد تعطي تفاؤلاً بإمكانية الإصلاح من دون الإلتفات الى المصالح الضيقة والامتيازات المضخمة التي تؤثر على الأنظمة وتجعلها عاجزة عن التقاط روح المرحلة وضرورات القرار الديمقراطي. بعض النخب في الأنظمة العربية لا تمانع في الإصلاح إلا أنها تتردد أمام قوى الاحتكار والسيطرة وبعض الجماعات العائلية والسياسية ذات التوجه النخبوي.
يسجل التاريخ أن الثورة الفرنسية ما كان يمكن لها أن تقع في ١٧٨٩ لولا انغماس الملكية الفرنسية قبل ذلك بسنوات طوال في دعم واضح وواسع النطاق للثورة الأميركية وذلك بهدف هزيمة بريطانيا، وبالفعل انتصرت الثورة الأميركية، وهي قضية عادلة، وفشلت بريطانيا الاستعمارية، لكن فرنسا الملكية أفلست اقتصادياً بسبب تلك السياسة. لهذا فالثورة الفرنسية، كما يؤكد إريك هوبسبون في كتابه «زمن الثورة»، هي نتاج لدعم الثورة الأميركية ضد بريطانيا. ويخبرنا التاريخ أن ملك فرنسا قبل الثورة الفرنسية كان يسعى الى الإصلاح الاقتصادي والسياسي، لكنه وقع ضحية ابتزاز الأرستقراطية والنبلاء وأصحاب الإمتيازات ممن رفضوا تقديم أي تنازل يذكر للحالة الشعبية المتصاعدة.
وبعد الثورة الفرنسية للعام ١٧٨٩ قادت النخبة الفرنسية الارستقراطية الثورة المضادة من أماكن تواجدها في المانيا وبدعم خارجي ألماني. فالمعروف، وفق هوبسبون، ان حوالى ٣٠٠ الف نبيل وأمير وأرستقراطي فرنسي إنتقلوا بعد ثورة ١٧٨٩ الى ألمانيا. بل أن كل اوروبا ارتعدت من الثورة الفرنسية وحاربتها. لكن تلك الحالة المضادة هي التي دفعت بالأمور في فرنسا الى الهاوية وأوصلت العنف الى أعلى مراحله عندما استلم الحكم في فرنسا عام ١٧٩٢ اليعاقبة الدمويون (وهم لا يختلفون في مضمون السلوك عن «القاعدة» و»داعش» وغيرهما في التاريخ). ومع اليعاقبة ولدت المرحلة الدموية الفرنسية، وهي المرحلة الدموية التي يمر بها جزء من العالم العربي كرد فعل على الثورة المضادة. إنها مرحلة لم نشهد سوى بداياتها.
وتطرح قوى رسمية عربية كثيرة أن المجتمعات العربية غير مستعدة للتداول على السلطة والمشاركة والاتفاق على حلول وسط. لكن السؤال الذي يقلق كل مراقب: كيف يمكن بعد أكثر من ستين عاماً على الاستقلال أن لا تكون الشعوب جاهزة للحرية وللتعبير وللعمل الحزبي وللديموقراطية؟ يصبح السؤال: ماذا حضر النظام العربي على مدى العقود مع مواطنيه وماذا يفعل من الآن وصاعداً للوصول الى مشاركة شفافة ومسؤولة؟ إن الخوف المبالغ فيه من الخيار الديموقراطي ومن حرية التعبير والتداول على السلطة في العالم العربي يفعل فعلاً مدمراً.
ما زال النظام العربي، وبسبب قصر النظر وسواد المصالح الضيقة، يسجن معارضاً لأنه أعلن رأياً، ويضع مثقفين في السجون لأنهم ألفوا كتباً، ويحكم بالإعدام على نشطاء لأنهم تظاهروا ورفضوا قانوناً محدداً، بل وما زال يقاطع الصحف ويمنع الكتب ويحد من مساحات التعبير والحريات البسيطة. الوضع العربي لا زال مهموماً بهاجس الحريات والحقوق، بينما يخوض مواجهة أصعب بكثير ضد العنف.
العالم العربي مسجون داخل آلة عنف كبيرة، بينما دعاة الإصلاح في داخل الأنظمة وخارجها محاصرون وتنقصهم الإرادة السياسية والقوة المجتمعية. فدعاة العنف في الأنظمة وخارجها من المعارضين يتكاثرون ويزدادون قناعة بأن المستقبل يقوم على العنف.
المشهد العربي مدمى ومنهك كما تؤكد لنا الحالة المصرية وتداعياتها. ففي قاع المجتمع العربي قناعة عميقة بفساد النخب، وقناعة أعمق بفساد الاقتصاد والسياسة. وهذا مشهد يؤسس لغياب المخرج وانتشار العنف.
الحرب على الإرهاب ستتحول بطبيعة الحال إلى حرب مكونة من جولات. قطعنا حتى الآن جولات عدة منذ بروز «القاعدة» ثم «داعش». فـ «داعش» تجاوز تصنيف الإرهاب التقليدي وهو يسيطر على ٤٥ في المئة من الأراضي السورية وأجزاء كبيرة من الأراضي العراقية ويجبي الضرائب، ويفرض القوانين، مما يعني ان هذا التنظيم يسعى الى بناء كيان سياسي. وبالفعل قد يفشل «داعش» بسبب تطرف أطروحاته، لكنه أدخلنا في مرحلة تسعى عبرها قوى سياسية مسلحة لتأسيس كيانات جديدة على أنقاض الكيانات السابقة. إن السبيل الحقيقي لصد هذا الوضع يتطلب الإصلاح.
لا يوجد في هذه المرحلة ما يخفف من تدهور المشهد العربي الملتبس، فأسعار النفط تراجعت ولن تعود الى سابق عهدها مما سيدفع الدول الغنية الى مزيد من استنزاف الأموال للحفاظ على الحد الأدنى من الخدمات والقدرات الدفاعية.
كما ستفشل سياسات التوطين والتنمية والصحة والتعليم والإنتاج في ظل الواقع العربي الراهن من جراء غياب الشراكة مع مواطن حر يتمتع بالقوانين التي تحمي حقوقه وتضمن مشاركته. ظاهرة الهجرة لم تعد تخص مواطني الدول العربية الفقيرة، بل حتى مواطنو الدول الغنية أصبحوا في حالة شك من إمكانية نمو قيم المواطنة والعدالة والإنصاف في الوضع العربي الراهن والمقبل. وهذا يعني مزيداً من التحديات في ظل ايران صاعدة وتركيا صاعدة، بينما تتفكك دول عربية رئيسية.
إن عدم الإصلاح بشقيه السياسي والاقتصادي هو طريق أكيد لانهيار الدول والأوطان وطريق ثابت لمزيد من التدخل الأجنبي.