نهم يقتلون كل من لا يوافق هواهم. إنهم يخلطون بين الخلاف فى الرأى والخلاف فى العقيدة والخلاف فى الإنسانية. إنهم لا يعرفون للنفس الإنسانية حرمة. إنهم حمقى يهوون القتل ويتعيشون على الدماء. قتلوا أبناءنا المصريين، ولا أقول الأقباط. نحن جميعاً سواء. إنهم نتاج لغابة من التخلف تغذيها بئر من التطرف لتنبت فيها أشجار الإرهاب. والعلاج هو بالضبط فى مواجهة هذه المعضلات الثلاث: التخلف، التطرف، الإرهاب. الإرهابى لا مكان له إلا أن يُفعل به ما أراد أن يفعله فى الناس. التخلف معركة طويلة الأمد تتطلب مواجهة سباعية الفقر والجهل والمرض والظلم والفساد والإهمال والإنجاب بلا حساب. التطرف هو مسئولية القائمين على الخطاب الدينى والثقافى والفكرى والإعلامى والتعليمى بنشر الفكر المعتدل والقيم الإنسانية الصحيحة وفى الجوهر منها التسامح والتعدد وقبول الآخر. قديماً قالوا عن المواد الفيزيائية إن المادة لا تفنى ولا تستحدث من العدم، ولكنها تتحول من صورة إلى أخرى. وهو ما يمكن ادعاؤه بشأن الأفكار؛ فهى عادة لا تفنى ولكنها تتحول وتطير وتسافر وتنتقل من مكان لمكان ومن زمان لزمان ومن بيئة لبيئة، وتكتسب أشكالاً وتفاصيل جديدة بحيث تتناسب مع بيئتها الحاضنة الجديدة. فكر التكفير ليس جديداً على هذه المنطقة من العالم، ولكنه يأخذ أشكالاً جديدة وأكثر دموية وتطرفاً وعنفاً. وعلى يسار كل يسار هناك يسار آخر أكثر تطرفاً منه وصولاً للفوضوية واللاسلطوية وحرب الجميع ضد الجميع، وعلى يمين كل يمين هناك يمين آخر وصولاً للعنصرية والطائفية وحرب الجميع ضد الجميع. وبين كل هؤلاء توجد قوى الاعتدال حتى داخل اليسار وداخل اليمين. وهذه القوى إما أن تضعف أو أن تقوى، إما أن تملأ مكانها فيتقزم التطرف أو أن تترك مجالها الحيوى لغيرها فيغلب التطرف على المجتمع كله، فتكون حرب الجميع ضد الجميع. فكر التطرف الطائفى العنيف دائماً موجود لكنه يزدهر حين تُترك له الساحة. وفراغ السلطة فى العراق وسوريا وليبيا مع تقاطع مصالح الفعالين الإقليميين والدوليين، أنتج هذه البيئة الخصبة لداعش الفكرة وداعش التنظيم. من وجهة نظر نظام «بشار» وجود «داعش» مفيد، لأنه رسالة إلى العالم بأن البديل عن «بشار» هو نظام حكم طائفى متطرف سيهدد المنطقة بأكملها، وفى القلب منها إسرائيل صديقة الغرب المدللة. ومن وجهة نظر إيران والشيعة بصفة عامة، فإن «داعش» هى نقطة البداية فى معركة «سنية - سنية» تترك المساحة الأكبر لإيران كى توطد نفوذها فى العراق وسوريا والجزيرة العربية أثناء ما السنة منهمكون فى معاركهم البينية. ومن وجهة نظر تركيا فإن «داعش» هى الخطر الأكبر على الأكراد الذين سيدخلون عليهم كالجراد المنهمر الذى يدمر أراضيهم، فينكفئ الكرد على أنفسهم ويخشون على بقائهم أكثر من تطلعهم لبناء دولة كردستان التى تشمل مساحة 15 إلى 20 فى المائة من مساحة تركيا. ومن وجهة نظر بعض القوى العالمية والعربية، ربما تنجح «داعش» فى أن تقوض أركان حكم الشيعة فى العراق، و«بشار» فى سوريا، وتكون معول هدم لهما بحيث تتحسن شروط التفاوض مع هذين النظامين بعد أن يضعفا وهما يقاومان الهجمة «الداعشية» عليهما. ولكن كما حدثنا «هيجل» عن «دهاء التاريخ»، وكما حدثنا نجيب محفوظ عن «عبث الأقدار»، وكما حدثنا «باريتو» عن «النتائج غير العقلانية وغير المقصودة للقرارات التى نفترض فيها العقلانية»، تدخل المنطقة فى كتلة من التفاعلات غير المقصودة وغير المخطط لها. ما حدث من الناحية الفعلية هو أن «ثعبان» داعش كبر وطمع وانتشر بأكثر مما كان يتوقع كل هؤلاء، فتمرد التمثال على صانعه، كما تقول الأساطير اليونانية القديمة. وبدلاً من أن يكون معول هدم للعدو، من وجهة نظر كل فاعل إقليمى أو دولى، أصبح لـ«داعش» إرادة مستقلة تعادى الجميع ويخشى أن يتورط فيها ومعها الجميع. «داعش» قابلة للتمدد والانتشار إن لم تجد مقاومة على الأرض، وليس فقط ضربات جوية. تلاقت إرادات الدول على وجود «داعش»، ولا بد أن تلتقى إرادتها للقضاء على «داعش». وستظل منطقتنا مسرحاً لصراعات ومصالح آخرين، حتى نحصن أنفسنا بدولة ديمقراطية تنموية عادلة حديثة. قولوا يا رب. * نقلا عن جريدة "الوطن" المصرية