ليس سرًا أن مجمل مواقف الدبلوماسية السعودية في قضايا الشرق الأوسط، يتناغم مع مواقف الدبلوماسية الفرنسية، ناهيك بأن باريس قد تكون حاليًا أقرب عاصمة أوروبية تتقارب سياسيًا مع الرياض، فإذا أضفنا لذلك «شهر العسل» الذي تعيشه العلاقات بين البلدين، وهذا الوصف أطلقه مسؤول فرنسي لصحيفتنا أول من أمس، فإن الزيارة التي يقوم بها الأمير محمد بن سلمان، ولي ولي العهد السعودي، لباريس وتختتم اليوم، ترسل برسالة سياسية بالغة الأهمية للأوساط الفرنسية بأن مواقف بلادها الصلبة تجاه القضايا الرئيسية في المنطقة، لم ولن تعتبرها السعودية في خانة المضمون، بقدر ما تعزز ارتباط تحالفها السياسي التاريخي، بشراكة عسكرية واقتصادية وصناعية تنعكس إيجابًا على البلدين. ثلاثة محاور رئيسية تلخّص العلاقات السعودية - الفرنسية في شكلها الجديد؛ أولها وجود قيادة جديدة في المملكة تسعى لفتح آفاق جديدة في العلاقات مع الدول الأوروبية، ترفع مستوى العلاقات من «وثيقة» إلى «استراتيجية»، وحتى لو كانت هذه العلاقات «جيدة جدًا»، فما الذي يمنع من أن تتحول في المستقبل القريب إلى «ممتازة»؟ وثانيها أن المواقف الفرنسية القريبة جدًا من الدبلوماسية السعودية، والتي تصل إلى حد عدم الاختلاف إلا نادرًا، تشكل أرضية صلبة، وقاعدة أساسية ينطلق منها مبدأ توثيق العلاقات بشكل أمتن، ولعل آخر المواقف الفرنسية مبادرة لوران فابيوس، وزير الخارجية الفرنسي، بخصوص القضية الفلسطينية على أساس حل الدولتين وعاصمتيهما القدس وفق قراري 242 و336. أما المحور الرئيسي الثالث لهذه الزيارة، فهو أن السعودية تتجه للتكامل الاقتصادي مع حليف تاريخي كفرنسا، فالرياض في حاجة لشركاء اقتصاديين من حلفائها، ولا شك أن الفرنسيين في مقدمة هؤلاء الحلفاء الكبار الذين تحرص على التكامل معهم السعودية اقتصاديًا كما هو سياسيًا. سألتني أمس مذيعة قناة «فرانس 24» عن الثمن الذي ستدفعه السعودية لهذا التقارب مع فرنسا، فكانت إجابتي أن السعودية لا يوجد عندها ما يعرف بـ«شيك على بياض» تقدمه لهذه الدولة أو تلك، ولا تتعامل بهذه الطريقة التي عفى الدهر عليها ولم تعد تجدي نفعًا. متى ما وجدت الرياض شريكًا اقتصاديًا يقدم لها منتجًا بالغ الجودة وبنوعية متميزة، وتكون هي بحاجة إليه، فبالتأكيد سيكون هذا الحليف أفضل شريك لها، أما إذا لم تكن هذه الصفقة أو تلك يستفيد منها الطرفان ويخرجان منها رابحين معًا، فستكون خاسرة لهما طال الزمن أم قصر، وهذا أمر تتفهمه الأوساط الفرنسية، وتحترم التوجه السعودي الذي يبني استراتيجيته على علاقات بعيدة المدى ودائمة ومستقرة، وليس عبر تكتيك وقتي يكسب حينًا من الدهر ثم يرتد خاسرًا. ولعل الاتفاقيات النوعية التي وقعت أمس بين الجانبين تؤكد هذه السياسة، باعتبار هذه الاتفاقيات ليست حبرًا على ورق، بقدر ما هي قابلة للتطبيق، والفائدة في نهاية الأمر ستكون للطرفين، وليس لطرف على حساب الآخر. ومع إرسال الزيارة السعودية الحالية للجانب الفرنسي برسالة دبلوماسية واضحة بأن الرياض لا تتعامل مع حليفها المتناغم معها وفق قاعدة ضمان المواقف السياسية إلى ما لا نهاية، فإن المناخ الإقليمي والدولي ملائم لتعزيز الحلف الاستراتيجي بين البلدين، وهو ما سيسهم في تكوين ثقل استراتيجي مستقبلي للذهاب إلى مواقف مشتركة أكثر قوة تساهم في قضايا رئيسية في المنطقة، بقيت معلقة طويلاً، وربما آن الأوان لهذه التحالفات أن تخرجها من دائرة الجمود.