2015-10-10 

العصر الثالث

سمير عطا الله

عندما جئنا للإقامة في لندن أواخر السبعينات، كنا، أينما تلفتنا، نرى ظلال سيدتين: العصر الإليزابيثي أو العصر الفيكتوري. إليزابيث الأولى، وفيكتوريا، الأولى والأخيرة. لكن كل شيء كان يعلوه الغبار. تمثال الأمير ألبرت الذهبي في هايد بارك، مهمل، لأن لا موازنات للترف. الشوارع كئيبة، وسيارات التاكسي النبيلة تصدر أصوات الصدأ وتأوهات التعب. اليسار العمالي المتحرك على عجلات من خشب وأفكار من حجارة، يترنح بين أيدي النقابات وتحت أقدام الإضرابات، يقودها رجل من تربية الأزقة، يدعى آرثر سكارغيل. جيمس كالاهان، الزعيم العمالي الراقي الخلق، «أسير» المحافظين والمتشددين. العمال العباقرة مثل دنيس هيلي، لا أثر لهم إلا في براعة النقاش وألمعيّة الحضور. وقفت بريطانيا فعلاً على الحافة. وكاد شبح حرب أهلية يطل من خلف العجز والشلل وبروز نقيق مثل خطاب سكارغيل. وأصبحت شركة الطيران الوطنية، بريتش إيرويز، الأكثر تحاشيا. وكان مطار هيثرو مثل مطار أوروبا الشرقية. قبل السقوط عن الحافة، ظهرت المرأة الثالثة في تاريخ بريطانيا. لم تكن ملكة، بل ابنة بقال من ضاحية فنشلي، ضاحية البقالين وموظفي القطارات وعمال البناء. كيفما تلفَّتُ في لندن اليوم أرى صورتها: على رؤوس الأبراج الحديثة، على مباني «السيتي»، شارع المال، على المباني التي لا تزال ترتفع كل يوم على ضفاف التيمس. في الأحياء التي كانت بائسة وأصبحت جزءًا من الازدهار، والجمال، وحركة الحياة. في محطات القطار التي كانت من أزمان السكك الأولى، وأصبحت، مثلها مثل هيثرو، نموذج الحركة الكبرى في العالم. على مقاعد بريتش إيرويز التي أصبحت أهم شركة طيران في العالم. أمرّ في الأماكن والمناطق ولا أعرفها. لقد قامت مكانها لندن أخرى، أعطت القديم الإليزابيثي والفيكتوري بريقًا جديدًا. إنه العصر الذي بدأته مارغريت ثاتشر، المرأة الفولاذية، التي رمت الخاملين من النوافذ وطمرتهم بالقشور التي كانوا يتعلقون بها. أدارت السيدة حكومات ضمّت بعض أفضل الرجال. وكان شعارها، «لا عودة إلى الوراء». لا أكياس قمامة على زوايا المدينة الذهبية. بعد ثاتشر، أصبح سهلاً على بريطانيا أن تتطور. حتى العمال غيّروا عجلات الخشب وأفكار القرن التاسع عشر. عندما ودَّعتها بريطانيا مثل ملكة، كانت تعرف أن عصرها لم ينته معها. لقد بدأ للتو فصل بلد آخر.

التعليقات
أضف تعليقك
الأكثر قراءة
مواضيع مشابهه