لماذا حظي قرار المحكمة الأميركية العليا بالسماح بزواج المثليين باهتمام إعلامي دولي، فيما يتراجع موقع الثورات العربية عند الرأي العام في الغرب والعالم؟ الإجابة عن هذا السؤال لا تستثني المآخذ المعروفة من مثل التمحور الغربي على الذات وتجاهل قضايا الآخرين والاستعلاء العنصري المعتاد. لكن إلى جانب ذلك، تجدر الإشارة إلى جملة من الأسباب تعود إلى فوارق في معنى الخطوة الأميركية، من جهة، والثورات العربية، في منظومة القيم السائدة اليوم، من جهة ثانية. لنُنحِ جانباً، كشرط لاستقامة النقاش، كل المواقف المسبقة والمحاكمات الأخلاقية لقرار المحكمة العليا. فليس هنا مجال الدفاع عنه أو انتقاده. ما يعنينا في هذه السطور هو تسليط الضوء على شيء آخر يتعلق بالفارق بين منظومتي قيم الناجم عن اختلاف عميق في الرؤية إلى العالم. نقول إن الغرب ما زال قادراً على طرح قضايا تتعلق بالعلاقات بين الفرد والمجتمع ومصائرهما، كعناوين للنقاشات العامة فيه ترقى إلى أن تكون «القضايا» مع ال التعريف التي يتعين على العالم الانتباه لها ومعاينتها وحلها. هي القضايا الكونية اليوم التي تصب في خانة استكمال انتزاع الإنسان لحريته، على ما يقول أنصارها. اكتسب قرار المحكمة الأميركية أهميته من هذه الزاوية وليس من نسبة عدد المثليين إلى غيرهم بين السكان. فلو أُخذ القرار من هذه الناحية لبدا أنه يتعلق بأقلية ضئيلة العدد بين السكان. يتعين هنا إذاً التمييز بين صنفين من القضايا: الكونية التي تحتل طليعة اهتمامات الغرب والتي تعني الفرد ودوره في بيئته ورفاهه. وقضايا شعوب الدول النامية أو المتخلفة. لا يعني ذلك أن الأولى أسمى أخلاقياً من الثانية، بل ببساطة أن جدول الأعمال يحدده من وضع نفسه أو وضعته الظروف التاريخية في صدارة الحضارة الحالية التي يهيمن الغرب عليها. إذا أخذنا الثورات العربية في مراحلها الأولى، نجد أن ما كانت تطالب به يشمل الحرية والكرامة والديموقراطية والعدالة الاجتماعية. هذه مطالب جذرية جداً في بلادنا وتمس الأسس التي أقيمت عليها الأنظمة السياسية والعلاقات الاقتصادية - الاجتماعية. وليس غريباً أن تشتد مقاومة البنى القديمة وتعنُف، كلما اتسمت الثورات بالقدرة على تهديد مجمل التركيبة القديمة. بهذا المعنى يمكن فهم عنف الثورات التي انقلبت حروباً أهلية في سورية وليبيا واليمن حيث إن ما وضع على المحك كان إرثاً راسخاً استقر لعشرات السنين من آليات إدارة الدولة والسيطرة على المجتمعات، في حين أن تونس ومصر عادتا - إلى حد ما - إلى الطرق القديمة في الحكم بالاعتماد على النخب ذاتها التي تمكنت من تجنب الموجة الأولى من الثورات واسترجعت مكانتها. لكن جذرية الثورات العربية حتى في لحظاتها الأشد عنفاً وضراوة لا تبدو للمراقب الغربي بأنها تحمل جديداً نوعياً. هي في أحسن الأحوال صراعات ضد ديكتاتوريات فاسدة، وفي أسوئها حروب طائفية بين جماعات لا تستطيع التعريف عن نفسها إلا من خلال هوياتها الموروثة. بكلمات ثانية، إذا كانت آلية التطور في الغرب محكومة بالجدل بين المساواة والحرية، أي بالمفهومين اللذين انقسمت حولهما الحياة السياسية في اوروبا وأميركا الشمالية منذ الثورة الفرنسية إلى يمين يرفع راية الحرية ويسار يطالب بالمساواة أولاً، فإن قرار إباحة زواج المثليين ينطلق من مناخ التوتر بين هذين المفهومين ومن سجالهما المديد. في المقابل، تنتمي مطالب الثورات العربية، حتى الأكثر جذرية من بينها، إلى خانة من خانتي المساواة والحرية انتماء صريحاً، وذلك بعد تشذيب عوالق الهويات والطوائف والإثنيات منها. حتى القضايا التي تعني المهاجرين إلى الغرب من أصول عربية أو مسلمة، على غرار قضية الحجاب التي شغلت فرنسا على مدى أعوام، ابتداء من التسعينات واتسعت لتشمل الرموز والإشارات الدينية في المؤسسات العامة، تعني أولاً الجدل بين الحرية الفردية (ارتداء الحجاب) والمساواة (علمانية الدولة)، لذلك اتسمت بأهمية خاصة في نظر الفرنسيين، إلى جانب التفسيرات العنصرية التي أضفاها عليها اليمين الفرنسي المتطرف والمظلومية التي استثمر المسلمون فيها ما تعرضوا له من ظلم وغبن على مدى عقود. عليه، تأتي تلك اللامبالاة بالقضايا العربية وقضايا العالم الثالث عموماً لتقول إن العالم الأول ينظر إليها نظرته إلى الكوارث الطبيعية التي لا يملك الكثير من الأدوات لمواجهتها، خصوصاً في أجواء الانسحاب الأميركي من النزاعات الخارجية وافتقار أوروبا إلى الموارد اللازمة للتدخل، على رغم قبول الأمم المتحدة قبل أعوام مبدأ «التدخل الإنساني». فالقضايا التي تأخر أصحابها في علاجها يتحملون هم وحدهم مسؤولياتها في حين أن العالم يسير على إيقاع آخر. وقبل عام ونيف وصف الفيلسوف سلافوي جيجك الثورة السورية بـ «الصراع الزائف» لأنها ليست سوى اقتتال بين دكتاتور فاسد وعصابات إرهابية دينية («ذي غارديان» -6/9/2013). بمعنى ما، يجوز إدراج هذا التفسير ضمن عدم طرح الثورات العربية لتحديات فكرية جديدة بالنسبة إلى الغرب الذي تجاوز منذ زمن مسائل الدكتاتورية والإرهاب الديني وهويات الجماعات المسلحة، تجاوزاً فكرياً من دون أن يبتعد عن آثارها غير المباشرة. لا ينفي ما سبق السعي الصريح إلى استغلال مآسي الشعوب والدول الفقيرة من جانب كل من استطاع إلى ذلك استغلالاً. ولا يمنح ذلك رفعة أخلاقية لقضايا العالم الأول وضعة لقضايا دول الجنوب. بل يقول أن العالم يسير بسرعات مختلفة وأن الأولويات لا تتحدد بالمضمون الأخلاقي المحض، بل بموقعها من جدول أعمال يضعه من يرى نفسه أكثر تقدماً من الآخرين.