فعلاً.. محظوظ من يتوفاه الله ويرحل عن الدنيا وهو كسعود الفيصل. ليس فقط لاسمه الذي طاف الآفاق ولوى الأعناق، ولا لعمله الذي سيبقى شاهدًا على إخلاصه لوطنه وشعبه، بل لذلك الحب الكبير والشعبية التي خطفها الراحل داخل بلاده وخارجها. لم يكن زعيمًا فتكون الشعبية مفهومة وفي سياقها الطبيعي. لم يكن وزيرًا خدماتيًا يبرع في خدمة مواطنيه ويحتك بهم مباشرة. كان وزيرًا أبعد ما يكون عن التعاطي المباشر مع الناس، إلا أن السعوديين، كما الخليجيين والعرب، أحبوه وتابعوه حاضرًا، وحزنوا عليه ميتًا. لم يفقد الناس وزيرًا كما فقدوا سعود. لم يكن الراحل وزيرًا أو دبلوماسيًا يذهب ويأتي بديل له، بقدر ما حمل على عاتقه مسؤوليات أوطان وبلدان، فما أثقلت كاهله ولا خففت من عزيمته، فلما ترجل الفارس عن جواده، قال له خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز بوفاء غير مستغرب: «عرفناكم كما عرفكم العالم أجمع على مدى أربعين عامًا متنقلاً بين عواصمه ومدنه شارحًا سياسة وطنكم وحاملاً لواءها، ومنافحًا عن مبادئها ومصالحها، ومبادئ ومصالح أمتكم العربية والإسلامية، مضحين في سبيل ذلك بوقتكم وصحتكم، كما عرفنا فيكم الإخلاص في العمل والأمانة في الأداء والولاء للدين والوطن، فكنتم لوطنكم خير سفير، ولقادته خير معين»، فماذا كانت إجابة القوي الأمين؟ رد على مليكه بتواضع الكبار: «سوف أظل الخادم الأمين»، معتبرًا أن «ما تضمنته برقية الملك له من كلمات تعبر عن كرم نفسه وأصالة معدنه، أكثر مما يستحقها شخصي المتواضع، وأكبر من جهد المقل الذي صاحب عملي وزيرًا للخارجية». أربعون عامًا من العمل الشاق المتواصل المنتج المتميز رسم فيها سياسة بلاده وحافظ على مصالحها وأفنى عمره لتقدمها، وعندما نجح في مسيرته بتفوق وبشهادة الجميع، يأتي ليقول إنه «جهد المقل». أتعبت مَن بعدك يا سعود. كم وزير تمنى أن يحيا حياة سعود الفيصل ويرحل كما رحل. كم مسؤول تكاسل سريعًا بعد أن أبهره بريق الشهرة، بينما سعود خدم بلاده وهو في أشد مراحل المرض، وكرس حياته وعمره لأمن وطنه وشعبه ولم يمنعه لا مرض ولا ألم ولا معاناة. لم يحتج يومًا إلى لقب الأمير أو الوزير فكان يكفي أن يعرفه الناس باسمه، فلما رحل ظل اسمه محفورًا في أفئدة الناس، في كل مناسبة يرى فيها الصحافيين لا يتوانى عن القدوم بنفسه لهم وتحيتهم والتواصل معهم. في حياة سعود دروس، وفي طلبه الإعفاء وتعاطيه معه دروس، وحتى في مماته والإجماع غير المسبوق دروس. بعد طلب الراحل الإعفاء من عمله وزيرًا للخارجية في أبريل (نيسان) الماضي، طلبت إجراء حوار موسع معه، بيد أنه اعتذر لرغبته في استكمال برنامج العلاج الطبيعي، فكنت لحوحًا للدرجة التي أبديت استعدادي للسفر إلى لوس أنجليس وإجراء اللقاء هناك في مقر إقامته، فكان الرد بالانتظار إلى ما بعد شهر رمضان بعد أن يكون قد أنهى برنامجه العلاجي. إلا أن القدر لم يمهلني لأن أحظى بهذه الفرصة التي لا تتكرر، فرحل وبقي ذكرًا طيبًا أنيقًا لا يموت برحيل صاحبه. الآن تجني ما زرعت يداك يا سعود. من جريدة الشرق الأوسط