منذ أن انطلقت ثورات الخريف العربي والإعلام يغص بالأخبار والمشاهد المؤلمة، خرج علی خلفية هذه الأحداث فجأةً محللون إعلاميون يتحدثون في كل شيء، ليس لديهم عمق سياسي أو ثقافي يخولهم للتعاطي مع الأحداث الملتهبة بعقول متفتحة وأعين بصيرة، ذات رصيد معرفي حقيقي، فبعض إعلاميي «الخريف العربي» -وهذا من نتاجاته السيئة- ليسوا سوى نخب أول بامتياز لمكعبات التخلف، لذلك كانت لهم الجرأة على تسيد المشهد الإعلامي، وامتطاء صهوة جواد الإعلام الجامح، وحمل سيف الحقيقة المزعوم، بينما هو أبعد ما يكون عن الحقيقة. لم يكتشف هؤلاء أنهم يعتلون منابر هشة أوهموا الناس بأنهم فرسان ومغاوير، وليس في جعبتهم سوى خواء أو سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء ، هؤلاء الإعلاميون -مجازاً- صنيعةُ «الخريف العربي» جعلوا من الحبة قبة فصادف هوى كل المتعطشين إلى الحقيقة، بينما هم في الواقع أبعد ما يكونون عنها، وهو ما أسهم في ارتفاع وتيرة الأصوات الإعلامية الفارغة، التي تهرف بما لا تعرف، فتماهت مع عقول جوفاء فارغة لا يسعها قراءة الأحداث من مصادرها الأساسية، بعدما غُيّب المختصون من علماء السياسة والفكر عن المشهد الإعلامي تماماً، فأصبح الإعلام في «حيص بيص»، وعلى إثره علت أسهم بعض القنوات، ولمعت أسماء أصبحت تقتات رغيفها الملوث من هذا الاختلاق والافتئات والاجتراء غير الواعي وغير المحسوب، حتى امتلأت القلوب بالغل والكراهية، وأصبح التراشق بفاحش الكلام ديدنها، كما انساق بعض شيوخ الأحزاب الدينية إلى غواية اقتطاع الرغيف الإعلامي، فلم يألوا جهدا باتخاذ الدين سلاحاً للتكفير والتفسيق. لم يهدأ هذا الإعلام المغرض ولم يكفَّ حتى في أحلك الظروف التي كانت فيها تحتاج إلى رباطة جأش، فقط لأنها غير مستعدة للتخلي عن جماهيرها المتوترة والمأزومة بها، فهي فرنها الحقيقي الذي تصنع به رغيفها، لذلك فإن أدنی شرارة تقدح هنا وهناك، تتضخم فجأة وتخرج بطريقة تعسفية تجافي العقل وتستنكف عن المعقول، حتى تشعل حريقاً يلتهم الأخضر واليابس؛ لذلك لم نستغرب أن يطال المملكة شوب من أوشابها، ولاسيما بعد تولي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز سدة الحكم. لقد أصابهم الكمد وأدنفت قلوبهم المعتلة، فيوم التغيير المشهود ثارت حفيظتهم الإعلامية، مستخدمين في سياقاتهم وتحليلاتهم طبيعة المتغيرات التي حدثت، وهي شأن داخلي يخص المملكة وحدها من دون غيرها، فانقلبت الرؤية بتعميمية فجة على سياسات المملكة الخارجية، والتزاماتها تجاه العالمين العربي والإسلامي، إلا أن الإعلام المأجور في كل مرة يكشف عن بلادته حساً ووضاعته شعوراً ، لذلك تنكشف محاولاته البائسة للتلاعب بعواطف الجماهير، متجاهلاً أيادي المملكة البيض على كثير من الدول، ولاسيما تلك الدول التي مستها الضراء إبان متغيرات «الخريف العربي» المتلاحقة، وكذلك مواقفها المشرفة مع شعوبها قبل قياداتها، بيد أن هذا الإعلام «المفرغ من أدنى أدوات الإعلام المحترم » يصر على أن يتجاهل طبيعة السياسة السعودية، ومن ورائه الإعلام السعودي، والنخب المثقفة السعودية التي تتسم بالتروي ولا تستخفها عواهن القول، ولا تأخذها ردود الأفعال السريعة بعيداً عن التزاماتها. شيء يسمی بالعامي «ثقل ورزانة»، وهذا نابع من الطبيعة الشخصية العربية الأصيلة التي تتغذی علی الحكمة والتروي، وتأنف عن الخفة والتقلب، وقد نسمي كل هذه السمات بعبقرية الطبيعة الغالبة للتطبع المتمثلة في شخصية العربي، وهي عبقرية متوارثة عبر الأجيال، وتختلف تماماً عن عقليات الاندفاعيين والموتورين من إعلاميي (الخفة والارتزاق )، ولو أدرك أولئك الإعلاميون هذه الطبيعة المشمولة بالعادات والتقاليد والقيم التي تفرض علينا الابتعاد عن الغوغائية في التعاطي مع الأحداث، لما سارعوا بإلقاء الكلام جزافاً، ولأدركوا عمق جهلهم الذي وضعوا أنفسهم فيه وعرفوا فشلهم الإعلامي، ولفهموا جيداً أن ما تقدمه السعودية لأي دولة وقت الأزمات يوم يصبح لديها رغيفُ العيش صعبَ المنال ليس إلا التزام بكل ما ذكرناه من عادات وتقاليد وقيم، ومنها نبع التزامها السياسي والاستراتيجي الذي تعهدت به المملكة لكل دول الجوار، التي عبرت بقنطرة «الخريف العربي» وعلقت فيها، فلم يكن بدًّا من مد يد العون بلا منٍّ أو أذى كما يصوره بعض مغرضي الإعلام الفاشل، من أجل تقويض تلك العلاقات التاريخية المتينة بدول الجوار، ومع ذلك لا يسع المملكة إلاّ أن تفي بالتزاماتها المادية والأدبية ضاربة بكل عبارات «عبطاء» هذا الزمان عرض الحائط؛ لأنهم لا يمثلون سوى أنفسهم وثقافتهم المريضة؛ لذلك تأتي أصواتهم الإعلامية المأزومة بذاتها بما يشبه العزف على أوتار ممزقة. لقد رأينا كيف يمارس بعض ملاك القنوات الفضائية اللجوجة (الشحاذة) على الملأ بلا مروءة أو أدنى غضاضة، إلا أن بعضهم يعتقد بأن الطريقة المعاكسة (للشحاذة) بالتطاول على كيان محترم كالمملكة، قد يأتي بالنتيجة المثلى بما يشبه الابتزاز المكشوف؛ لذلك تسعى بكل ما أوتيت من قوة للحط والتقليل من قدرها، في حين أنها تكشف من دون أن تدري بغبائها وسخافتها برمية لم تكن تقصدها أن المملكة ليست هينة أو ساذجة حتى يتلاعب بها من يحلو له أن يوصف بإعلامي، وهو أبعد ما يكون عن الإعلام، فقد غاب عنهم أن السعودية معادلة صعبة في الشرق الأوسط، لا، بل في العالم برمته؛ فلديها القدرة علی التأثير السياسي في العالم أجمع، ليس بأموالها وثرواتها فحسب، بل بالفعل السياسي المحنك، وهذا ما ثبت في كثير من المواقف التي تحتاج إلى نوع من الصبر والتروي، بما يكشف عن طبيعة الإدارة السياسية المختلفة التي تتحلى بها، والصفات الخاصة والمميزة له عن غيرها. كم أتمنى لو يكتشف أولئك الإعلاميون الذين يتحدثون عن كل شيء بلا غضاضة، وهم أجهل الناس بما يقولون، فلهم في كل عرس قرص، فمرات يتحدثون عن سير الصحابة، وأخرى عن نجوم السينما، ثم يتحدثون بعدئذ عن قضايا الدين والمجتمع ويفتون للناس جهلاً، وها هم اليوم يدخلون عالم السياسة من أبوابها العريضة، ويتحدثون جهلاً بما لا يستقيم عرفاً ومنطقاً بآراء استفزازية فقط؛ من أجل كسب متابعين أكثر، أقول كم أتمنى لو أنهم اكتشفوا كما اكتشف الإعلامي المرموق صاحب القناة الشهيرة الذي حصد جماهرية كبيرة، أنه كان ينفخ في قربة مقطوعة، واصفاً قناته بالمفلسة ونفسه بما هو أسوأ ، فلو فعلوا كما فعل لاحترمناهم أكثر؛ لأن الاعتراف بالخطأ فضيلة واستمراء الجهل خطيئة. *نقلا عن جريدة "الحياة" اللندنية