فور استقلال اميركا من بريطانيا العظمى عام 1776، وقعت في إشكال سياسي كبير بات يهدد بقاءها، فلم تكن اغلب الولايات ترضى باستبدال لندن بواشنطن أي العودة لحكم مركزي جديد، لذا أصبحت لكل ولاية او دولة (تعني دولة State) حكومتها وبرلمانها وماليتها ونظامها الضريبي وجيشها او الميليشيا الخاصة بها، حتى لم يعد هناك ما يربط الولايات الاميركية المختلفة الا خيط رفيع من الرمال لا قيمة له، وهو ما كان يمهد لسقوط تلك الولايات او الدول الواحدة تلو الاخرى تحت سنابك جيوش الاسبان او الفرنسيين او الالمان او حتى الانجليز مرة اخرى. **** أمام ذلك الإشكال الخطير خط شابان في الثلاثين من عمرهما هما جيمس ماديسون (36 عاما) والكسندر هاملتون (32 عاما) ما سمي بـ «الاوراق الفيدرالية»، اخترعا نظاما سياسيا جديدا لم يعرفه التاريخ السياسي من قبل، حيث دعوا الى وحدة هي حل وسط بين الدول المستقلة والدولة الاندماجية الواحدة، بحيث تحتفظ كل ولاية باستقلال نسبي وحكومة وبرلمان وعاصمة لها الا انها تشترك مع الولايات الاخرى برئاسة موحدة وبرلمان موحد وسياسة خارجية ودفاعية ومالية وعملة واحدة، ولم يسفه الآباء العظماء والمؤسسون للولايات المتحدة تلك الافكار كونها قادمة من شباب صغار، بل تبنوها وعملوا بها فحفظت لهم بلدهم الذي تحول بها الى اقوى بلد في التاريخ، وبات حاليا 40% من سكان العالم وأكبر دولة يحكمون بالنظام الفيدرالي. **** إشكال الدول العربية الحالي أكثر حرجا وخطورة بكثير مما كان قائما في الولايات المتحدة، فواضح ان الفكر السياسي العربي القديم لم يعد صالحا لحل الإشكال العربي في دول مثل العراق وسورية وليبيا والصومال والسودان وفلسطين واليمن.. الخ، بل بات هو الإشكال لا الحل، فالفكر والاحزاب والانظمة القومية واليسارية هي التي بدأت اشكاليات تلك الدول بقمعها وعنصريتها، والفكر والاحزاب والانظمة الاسلامية هي التي تسببت في ابقاء الاشكالات وانفصال جنوب السودان الذي تفوق مساحته مساحة جميع الاراضي العربية التي تم البكاء على ضياعها سابقا. **** ان الدول العربية المضطربة بحاجة لنظام سياسي عربي جديد غير مسبوق ومعه قواعد للعبة سياسية جديدة كفيلة بتوقف شلالات الدم المنهمرة ومعها توقيف مسارات الكراهية والأحقاد الكفيلة- إن لم نوقفها بالفكر الجديد- ببقاء الحروب لعقود ولربما قرون قادمة، فالفكر التنويري الجديد الذي سنتطرق له في مقالات لاحقة لا يقوم على معاداة الانظمة ومبادئ الصراع والانقلاب عليها كما تبنت ذلك التوجهات القومية واليسارية، او تحريض الجماهير للثورة على الانظمة كما قامت بذلك التوجهات الاسلامية بمختلف توجهاتها، فنتائج الانقلابات اليسارية والثورات الاسلامية أودت بدولنا وشعوبنا للمهالك ولما نراه من خراب ودمار وفوضى شاملة. **** آخر محطة: النظام السياسي والفكر التنويري الجديد يقوم في جانب منه على الابتعاد الكلي عن المسارات والثقافات السياسية الموروثة والماضوية التي هي سبب البلاء والدماء المسفوكة لصالح فكر التسامح والمحبة والمغفرة بين مكونات الشعوب الدينية والعرقية والطائفية واستبدال معادلة الخسارة ـ الخسارة ـ الخسارة التي يخسرها الجميع كما هو الحال مع الفكر القديم القائم بمعادلة الربح ـ الربح ـ الربح كما هو الحال المتوقع مع الفكر الجديد القادم، والتفاصيل ستأتي في مقالات لاحقة. من جريدة الأنباء الكويتية