اقتربت للتحدث معه، بناء على طلبه، أثناء الجلسة الختامية لمؤتمر القمة العربية الأخير الذي عقد بشرم الشيخ في مارس (آذار) الماضي، حيث كان يعتصره الألم، وأراد أن يوجهني بأمر ما، ولكنني لم أتمكن من فهم ما كان يود أن يقوله، مما أشعرني بالألم لعدم قدرتي على تنفيذ ما أمرني به. وعدت إلى مقعدي بعدما انتهى من كلامه، وتحدثت مع الزملاء في هذا الشأن. الغريب في الأمر، ونحن نتحدث، أننا وجدنا الأمير يرفع يده عاليًا يطلب المداخلة. وعندما أعطته رئاسة المؤتمر الفرصة لتقديم مداخلته، انطلق بمداخلة مرتجلة عن موقف روسيا بخصوص القضية السورية، والتي شاهدها واستمع إليها الجميع. وكنت أكثر شخص مشدود ومشدوه بتلك المداخلة. لا أصدق أن ما أسمعه وأراه أمامي نابع من الشخص نفسه الذي كنت بجانبه منذ دقائق ويعتصره الألم. لكنها الإرادة الجبارة التي كان يمتلكها، طوعها وتحامل على كل ظروفه، عندما حتّم الموقف التدخل بالحديث. عندها لم أتمالك نفسي وسطر قلمي بعض المشاعر عن رؤيتي لشخصية وقدرات ذلك الرجل الفذ. وقد كتبتها في مقال نشر تحت مسمى «وترجل الفارس عن صهوة الخارجية». ومما أوردته في ذلك المقال عن شخصيته الرائعة وقدراته المتميزة، أنني «في حضرته عشت وكل الزملاء هيبة وشموخا نابعين من شخصية تصافحنا بجود واحترام، وتواضع ونقاء، وتشدنا بسعة أفق واطلاع، عبقها سمو النبلاء. وقد كان ينصت بانتباه، ويقرأ بتمعن مختلف الآراء. كلماته مقتضبة باتزان، لا يتحدث غثاء. يأبى الزيف والمظاهر، صبورًا، جلدًا، متحملاً العناء. يهبّ إذا هتف النداء لخدمة دينه، وملكه، ووطنه صبحًا ومساء. وتعلمنا منه أن أساس النجاح هو تقدير أي عمل أو شخص وعدم الكبرياء، ودعائمه اللطف والدماثة وتجاوز الأخطاء. وتتلمذنا على يديه أن الولاء للوطن والوفاء، يتجسدان بصفاء، عند نكران الذات والبذل والعطاء، بنزاهة وسخاء، وتفان لا يكل من دون رياء. وشاهدناه سنوات عديدة يقدم دروسًا في: كيف يكون الحزم صامتًا عندما يتحدث السفهاء.. وكيف تكون ومتى مداخلات الحكماء.. وكيف بالذكاء تنال ما تود وتشاء. وكيف يتجلى الدهاء عندما تغير الأعداء ليصبحوا أصدقاء.. وكيف تدافع عن قضايا أمتك وترسخ موقع بلادك ثابتا في محافل الأقوياء. فلا غرابة أن ارتقى درجات المجد وأضحى للفخر والعز سناء، كاسبًا المحبة والثناء، من الناس كافة والزعماء، بغض النظر عمن غادر أو جاء». ولم يستمر طويلاً بعد ترجله عن صهوة الخارجية، فقد اختاره المولى عز وجل إلى جواره، في إحدى الليالي الفضيلة من شهر رمضان المبارك. وبوفاته فقدت الأمتان العربية والإسلامية بل والعالم أجمع سياسيًا محنكًا، وفي زمن الكل في أشد الحاجة فيه إلى حكمة وخبرات أمثاله. كتب وتحدث الكثيرون عن شخصيته ومهاراته السياسية، ولم يتمكن قلمي من كتابة سطر تأبين واحد عنه. وحيث إن سعود الفيصل لم يكن وزير خارجية فحسب، بل كان قامة عظيمة متنوعة ومتعددة القدرات والممارسات، ومحركًا أساسيًا في صنع التنمية، ورياديًا في تطوير العديد من الملفات الاقتصادية والثقافية، وجدت أنه لزامًا عليّ أن أسرد مقتطفات من بعض المواقف المتصلة، التي عايشتها خلال فترة العقدين الماضيين من تشرفي بالعمل تحت قيادته، والتي تبرز جزءًا من ريادته في القضايا الاقتصادية والثقافية. وأبدأ بقضايا البترول والغاز، التي كانت امتدادًا لخبراته السابقة قبل أن يتولى حقيبة الخارجية؛ ففي عام 1999 قاد عمليات التجهيز لمبادرة استثمار الغاز بالمملكة. وتم لذلك الغرض تشكيل فريق من المستشارين القانونيين والماليين لإعداد الإطار العام للمبادرة، تمهيدًا لإقرارها من المقام السامي الكريم ليتسنى طرحها أمام الشركات الراغبة في الاستثمار. وفي بداية الإعداد دار الحديث حول مبادئ وقواعد المبادرة المقترحة. وكان طرحه، رحمه الله، قويًا وواضحًا عندئذ، بأهمية التزام جميع الشركات الدولية المهتمة والراغبة في الاستثمار بتقديم عروضها ومناقشتها مع الحكومة السعودية مباشرة، وليس عبر وكيل محلي أو أجنبي، مؤكدا أن مصلحة الوطن تحتم الحرص على عدم رفع كلفة الاستثمارات المؤملة، جراء الأموال التي تدخل جيوب الوكلاء كنسب من الصفقات وهم لا يقدمون شيئا يخدم في هذا الأمر. فمصلحة الوطن كانت همه الأول، رحمه الله، وكان يحرص دومًا عليها بكل عمل يقوم به. وفي مجال الاقتصاد والتجارة الدولية كان رائدا في ترسيخ الحضور السعودي بمحفل مجموعة العشرين. فالاقتصاد السعودي، في نظره هو الأكبر على المستوى العربي، ومن الأهمية حضوره القوي والفعال للدفاع عن المصالح الاقتصادية الوطنية والعربية في محفل الأقوياء ذلك. ولن أنسى في هذا الصدد حضوره ومشاركته برئاسة الوفد السعودي لمؤتمر قمة العشرين في بيتسبرغ بالولايات المتحدة بعد أيام قليلة من إجرائه عملية في العمود الفقري. وتحمل أشد الآلام في سبيل أن يكون للمملكة حضور بارز وفاعل بتلك القمة. وترأس اللجنة الوزارية المشرفة على انضمام المملكة إلى عضوية منظمة التجارة العالمية، والتي استمرت بعد ذلك في متابعة آثار ومشاركة المملكة بتلك المنظمة. وكان لقيادته الحكيمة لتلك اللجنة واستثمار علاقاته واتصالاته الوثيقة بالمسؤولين في الدول المختلفة الدور الأساسي في تيسير عملية المفاوضات والانضمام لعضوية المنظمة. ومع انشغال الأمير سعود الفيصل، الدائم بالقضايا والهموم السياسية الإقليمية والدولية، لم يغفل يومًا عن الاهتمام بالشأن الاقتصادي الوطني السعودي. فقد أمضى سنوات عديدة رئيسًا للجنة العامة للمجلس الاقتصادي الأعلى، وعضوًا بالمجلس الأعلى للبترول والمعادن. واهتم كثيرًا بتبني الأفكار والمبادرات التي يؤمل أن تخدم مصالح الاقتصاد الوطني السعودي ورفعها إلى نظر المقام السامي للتوجيه، والجهات المعنية لاتخاذ ما تراه مناسبًا بشأنها. ويحضرني سريعًا في هذا الصدد مبادرتان كان له، سبق الريادة في تقديم مرئيات ومقترحات بخصوصهما. الأولى عن الاستثمار الزراعي السعودي في الخارج، حيث كانت رؤيته أن هناك فرصة مناسبة لدعم التنمية بالدول النامية المحتاجة، وفي الوقت نفسه تحقيق مكاسب مشتركة للمملكة (الدولة المستثمرة) والدول المستهدفة بالاستثمار، وغالبيتها دول إسلامية تعاني كثيرًا من انخفاض مستويات النمو لديها، مؤكدًا في تلك المبادرة أن الدور الأساسي بالاستثمار يجب أن يتولاه رجال الأعمال السعوديون، ويقتصر دور الدولة على المساندة فقط. المبادرة الأخرى التي اقترحها، تتعلق بالمورد البشري السعودي. وتضمنت أفكارًا بأهمية تضمين برنامج الابتعاث السعودي فترة زمنية بحدود سنة إلى سنتين يعمل بها المبتعث بعد التخرج في إحدى المنظمات أو المؤسسات أو الشركات الدولية المتميزة قبل العودة للوطن. وكان يرى أن مثل هذا الأمر سوف يحقق مصلحة كبيرة للوطن، فالحصيلة سوف تضمن عودة قدرات بشرية وطنية مؤهلة بالمعرفة ومكتسبة المهارة، إلى جانب الالتزام والاحترام لأدبيات وسلوكيات العمل التي تتميز بها الدول والمؤسسات المتقدمة. وكان مهتمًا كثيرًا بقضايا التعليم انطلاقًا من رؤيته أن التعليم المتميز أمر أساسي في تكوين المورد البشري الفاعل الذي يستطيع الوطن أن يستند إليه في بناء مساره التنموي. وفي الاجتماعات التي عقدها مع المسؤولين في الدول المختلفة، خصوصا بعد 11 سبتمبر (أيلول) 2001، عندما كان الحديث يتناول المناهج التعليمية والتطرف الفكري، كان يؤكد دومًا على أن الأولوية القصوى في تطوير التعليم هي للمدرس وإعداده الإعداد الجيد. فهو الأهم في نظره بالخريطة التعليمية من المناهج أو غيرها من الأمور. ولم يتوقف دوره في هذا الأمر هنا، فقد كان إلى جانب أشقائه الكرام، أحد المؤسسين لمدارس الملك فيصل بمدينة الرياض، التي تعد واحة تعليمية متميزة وتضاهي أرقى المدارس في العالم. وأراد، إبان رئاسته لمجلس إدارة تلك المدارس حتى وفاته أن يزرع نواة داخل الوطن لمثال التعليم المتميز المنشود، مؤملاً أن ينتشر مستقبلاً في مختلف أرجاء المملكة. ويعرف المهتمون بأن الأمير سعود الفيصل، رحمه الله، إلى جانب عمله وزيرًا للخارجية، كان محركًا رئيسيًا في تأسيس ورعاية قضايا حماية الحياة الفطرية في المملكة وتنظيم نشاطاتها. وكان أيضًا يرأس ويشارك لسنوات عديدة في اللجان الوزارية المكلفة بمتابعة الشؤون الاقتصادية والتنموية والبترولية والعمل والمالية والثقافية والإعلامية والأمنية ومكافحة الإرهاب وحوار الأديان والثقافات والشؤون الإسلامية وغيرها من النشاطات. إلى جانب متابعته الشخصية لملفات العديد من القضايا التنموية الوطنية التي كان خادم الحرمين الشريفين يسندها إليه شخصيًا. وما ذكرته ليس إلا غيضًا من فيض الريادة في الأدوار والمهام الاقتصادية والثقافية التي قادها وأسهم فيها الأمير سعود الفيصل، خلال مساره العملي لخدمة التنمية الوطنية في المملكة العربية السعودية والوطن العربي والإسلامي. فقد كانت متنوعة وعديدة ومتشعبة بشكل كبير جدًا ومن الصعوبة بمكان حصرها وذكرها في مقال أو كتاب واحد. ولذلك لم يكن مستغربًا ذلك الحب والألم الكبير الذي عكسته مشاعر كل مواطنة ومواطن جراء فقدان قامة كبيرة وكنز وطني كالأمير سعود الفيصل، الذي كان محبًا بإخلاص لوطنه وأمتيه العربية والإسلامية، ومواطنيهما، فبادله الوطن والعالم أجمع الإخلاص والحب. * وكيل وزارة الخارجية السعودية للعلاقات الاقتصادية والثقافية من جريدة الشرق الأوسط