2015-10-10 

ثنائية الجلاد والضحية

عمرو حمزاوي

أن يتورط بعض من حرقت أجساد ذويهم الأقدمين فى أفران النازى فى حرق بعض من ينزعون عنهم الإنسانية ويصنفونهم كأعداء ويغتصبون أرضهم وينتهكون حقوقهم ويمتهنون كرامتهم، لهو دليل دامغ على طاقة الإجرام والعنف والتطرف والكراهية التى يستطيع البعض توليدها والإبقاء عليها وتجديد مصادرها وتسريع وتأئر إنتاجها للشر. فى خمسينيات القرن العشرين، كتب فرانز فانون عن ضحايا الماضى الذين تتلبسهم فى الحاضر الوضعية النفسية والعقلية لجلاديهم السابقين ويكتسبون ذات مهاراتهم فى القتل والقمع والتعذيب والانتهاك وممارسة الاضطهاد ويسقطون ضحايا يتكاثرون بينما هم يواصلون توظيف ماضى عذاباتهم للاحتفاظ بمصداقية أخلاقية واهية وتبرير جرائمهم. فانون، الذى استخدم ثنائية الجلاد والضحية فى تحليل الظاهرة الاستعمارية والعلاقة بين المستعمر والمستعمر، سبقه وتلاه فى تناول تورط ضحايا ظلم واضطهاد الماضى فى إنزال الظلم والاضطهاد بضحايا الحاضر بعض العلماء والمفكرين والكتاب المنتمين للديانة اليهودية الذين هالهم أن يتحول من حرق وقتل ذويهم فى الهولوكوست الذى نفذه النازيون فى ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين ببيروقراطية عالية التنظيم والكفاءة وكاملة التجرد من كل قيمة أخلاقية وإنسانية إلى ممارسين للحرق والقتل وجرائم الإبادة والتهجير واغتصاب الأرض فى فلسطين وإلى مبررين لإجرام لا نهاية له تحت يافطة وطن اليهود وأرض الميعاد وعداء الفلسطينيين والعرب المزعوم للسامية. تفسر ثنائية الجلاد والضحية إجرام الدمويين والإرهابيين بين المستوطنين الإسرائيليين الذين أحرقوا الرضيع الفلسطينى على دوابشة وألحقوا بأبيه وأخيه إصابات خطيرة عندما أضرموا النيران فى منزل الأسرة والذين تتصاعد منذ فترة زمنية ليست بالقصيرة جرائمهم الداعشية فى الضفة الغربية، أحرق النازى ذويهم فى القرن الماضى وهم يحرقون اليوم أطفال الفلسطينيين. غير أن ثنائية الجلاد والضحية تفسر أيضا جريمة الاستيطان، تلك الممارسة غير الشرعية والعنيفة التى يرتكبها متطرفون وعنصريون وكارهون للآخر والمستندة إلى اغتصاب الأرض وتهجير أصحابها وامتهان كرامتهم الإنسانية وتصفيتهم سجنا وقمعا وتعذيبا وقتلا إذا عن ذلك للمتطرفين، ودوما ما يعن لهم. كما أن ثنائية الجلاد والضحية تفسر، ثالثا، الإجرام الرسمى لدولة إسرائيل وحكوماتها المتعاقبة التى لم تكف أبدا عن اغتصاب الوطن الفلسطينى واستباحة دماء الناس والاعتداء عليهم احتلالا وقتلا وترويعا وحصارا ولم تتوقف أبدا عن بناء وتمويل المستوطنات (وجميعها كيانات غير قانونية شأنها شأن الاحتلال) وحماية المستوطنين (وجميعهم متطرفون بحكم تورطهم فى الإفادة من جريمة الاحتلال وفى اغتصاب الأرض وتهجير أصحابها، حتى وإن اقتصر التورط فى إجرام المستوطنين اليومى على العناصر الدموية والإرهابية بينهم). فى مواجهة ثنائية الجلاد والضحية، فى مواجهة الظلم والاضطهاد الذى مارسه المستعمرون، شرعن فانون النضال المسلح ضد جيوش المستعمرين ﻹنجاز التحرر الوطنى وإنهاء الحكم الاستعمارى، وطالب بإقرار قيم الحق والعدل والمساواة والحرية للحيلولة دون تورط ضحايا ظلم واضطهاد الماضى بعد انعتاقهم من العذاب فى إنزال الظلم والاضطهاد بضحايا آخرين. غير أن النضال المسلح الذى عناه فانون يختلف أخلاقيا وإنسانيا ومجتمعيا وسياسيا على نحو جذرى، حين النظر إلى الوضعية الفسطينية والإسرائيلية، عن قتل المدنيين المنتمين بحسابات الهوية الدينية وبطاقات الانتماء الوطنى للجلادين، عن التورط فى جرائم إرهاب تتجاوز الخطوط القاطعة الفاصلة بين النضال المسلح ضد آلات القتل العسكرية والأمنية وبين إسقاط ضحايا مدنيين حتى وإن كانوا من المستوطنين الذين يغتصبون الأرض، عن إسقاط أولوية الرؤية الشاملة للتحرر الوطنى ولحق تقرير المصير للشعب الفلسطينى التى تلزم اليوم بالنضال السلمى وبتقديمه على النضال المسلح، عن انزلاق بعض الأطراف الفلسطينية فى صراعاتها على السلطة إلى استدخال ثنائية الجلاد والضحية وارتكاب جرائم وقتل وعنف وقمع باتجاه بعضهم البعض بعد أن تلبستهم وتمكنت منهم الوضعية النفسية والعقلية لجلاديهم الإسرائيليين، عن النفاق الرسمى لبعض حكام وحكومات الاستبداد والتسلط العربى التى تدين وتشجب جريمة إحراق الفلسطينيين الأخيرة وتندد بالجلاد الإسرائيلى بينما هى تمارس يوميا ضد شعوبها الجلد والإحراق، وأحيانا ضد الفلسطينيين الذين بحثوا يوما ما فى الجوار العربى عن ملاذات لجوء آمنة أو انتظروا الدعم الفعال وكسر الحصار. من جريدة الشروق المصرية

التعليقات
أضف تعليقك
الأكثر قراءة
مواضيع مشابهه