بالمعنى الثقافي الحضاري للفكرة والصورة، يمكن القول إن الذات العربية اليوم مُعنفة رمزيًا وماديًا، وإنها تعاني من فعل الجلد بما يمثله من قسوة ومن فعل القتل وما يستبطنه من إجرام. وتأسيسًا على مبدأ أن الكلمة هي في الجوهر فعل، فإن خطابي الجلد والقتل وما ينجر عنهما من ممارسات يمثلان مربط الفرس وبؤرة التوتر الفكري الديني الثقافي في الوقت الحاضر. تعيش الذات العربية اليوم تحت ظل خطاب جلد الذات ووطأة خطاب قتل الذات وما بينهما توجد خطابات خافتة الصوت والنبرة والتأثير رغم الاعتدال. لقد سعت النخب الراديكالية النظرة المتحمسة لثقافة الغرب وقيمه والمولعة بمنظومة الحداثة إلى تجذير شعور الانبهار بالآخر على حساب تقدير الذات الثقافية العربية. هؤلاء الراديكاليون الذين لا نشك في أن غالبيتهم قلّبوا صفحات الحضارة العربية جيدًا، قد انتهوا مع الأسف إلى نتيجة مفجعة جدًا وهي أنّه لا حل أمام الذات العربية إذا ما تعلقت همتها بالتطور والتقدم والوجود في العصر الحديث إلا بالانطلاق من الصفر ثقافيًا وحضاريًا. إن دعاة الصفر المشار إليهم قد مارسوا أقسى أشكال جلد الذات بفعل حماسة الانبهار بالآخر وهوس فكرة أنه لا أنموذج ثقافيًا ناجحًا خارج الأنموذج الأوروبي الغربي. أي أن مغالاة النخب من دعاة التغريب والصفر ثقافيًا في جلد الذات، قد أنتجت خطابًا فكريًا وثقافيًا عنيفًا ومُعنفًا، يفتقر إلى الموضوعية والنسبية... فكان الجلد الدامي. طبعًا يشكو الأنموذج الثقافي العربي الإسلامي من ثغرات عدّة ومركبات كثيرة ولكن هذا لا يعني البتة أنه أنموذج عديم الصلاحية. إنه أنموذج بحاجة إلى النقد اللاذع والمعمق والإصلاح والبناء. إنه أنموذج يحتاج إلى الشذب. وشتان بين قطع الشجرة من أوصالها وجذورها، وشذبها وإزالة ما علق بها من زائد الأوراق والأغصان. لقد كان بإمكان النخب ذات التوجهات التغريبية - بحكم ما تمتاز به من كفاءة وقدرة على التفكير وإعمال العقل - أن تنخرط في الجلد المؤسس وجلد المدافع عن أنموذجه الثقافي الحضاري من بوابة تخليصه من الشوائب وتحيينه وتطعيمه بالقيم، التي أظهرت فعاليتها في الثقافات الأخرى المجاورة للمرجعية العربية الإسلامية. المؤسف أن جهود هذه النخب، التي تجسدت في المنشورات والندوات إلى جانب الحضور الإعلامي الكبير والمتواتر، أفرزت في صفوف شبابنا وطلبتنا أفرادًا يعانون من الانطواء الثقافي الحضاري وينظرون إلى هؤلاء المفكرين المدافعين عن ثقافة الآخر على أنهم أعداء الأنموذج الثقافي العربي وكارهون له وغير معترفين به. وهو ما صبّ في صالح المجموعات المتشددة الدوغمائية، حيث مثل هؤلاء الشباب وقودها الاجتماعي الجماهيري. الخطأ الكبير، الذي وقعت فيه النخب التحديثية الراديكالية أنّها انتصرت للأنموذج الثقافي الأوروبي الغربي من خلال محاولات تهميش الرأسمال القيمي الرمزي والمعيش العربي والإسلامي. لقد كان بالإمكان الانبهار بالآخر دون تقزيم الذات والانتصار أيضًا لقيم الآخر دون استعداء الأنا. إنها معالجة راديكالية، غاب عنها الحذر الثقافي وحس النظرة التوفيقيّة والمقاربة النسبية لأي أنموذج مهما كان براقًا في خارجه. المشكلة الكبرى، أن هذا التوجه التغريبي الراديكالي، الذي اشتد وطيسه منذ تاريخ استقلالات الدول العربية، لم يتفطن أصحابه إلى الفكرة المفتاح المتمثلة في أن الشجار مع الذات ليس بهدف القطيعة وإنما بهدف إدخال دينامية والجمع بين الهدم والبناء معًا. كما أنه لم يتم التفطن إلى أن تأثير المبالغة في جلد الذات العربية، سيخلق أزمة عند فئة الشباب تحديدًا التي تتشكل هويتها الرمزية في هذه المرحلة العمرية بالذات. وليس من قبيل الصدفة، أن يمثل الشباب أكثر من ثلاثة أرباع القاعدة الاجتماعية للجماعات «التكفيرية» حيث يستنجد بها هؤلاء الشباب هربًا من أصحاب فعل جلد الأنموذج الثقافي العربي الإسلامي. ولكن هل يعلم شبابنا الواقع في مأزق كيفية بناء هويته الذاتية الثقافية والدينية أنهم هربوا من الجلادين إلى القاتلين. ففي مقابل خطاب جلد الذات تعاني الذات العربية اليوم من محاولات قتل جادة وهي محاولات تقوم بها التنظيمات الإرهابية كافة. إنه قتل، لأن المشروع المتطرف الذي يرتدي عباءة الدين، يرفض الحاضر والواقع والتطور التاريخي ويقيم علاقة بالزمن مجتزأة قوامها الماضي دون بعدي الحاضر والمستقبل. إنه قتل، لأن هذه الجماعات تمارس القتل بوحشية وتقطع الرؤوس وتعدم الرهائن الضعفاء العزل وتمثل بالجثث معتدية على كرامة الجسد، الذي كرمه الله عزّ وجلّ. كما أن مشروعها ذاته، يندرج في صميم فكرة القتل وفعل القتل ومعنى القتل. يريدون أن يفرضوا علينا بالقوة عالمًا مغلقًا لا هواء فيه ولا أكسجين. يريدون أن يفرضوا علينا النظر بعين واحدة هي بدورها فاقدة للبصر. يتجاذب الذات العربية جلادٌ يرفض جملة وتفصيلاً الرأسمال القيمي العربي وقاتلٌ يجرنا إلى الخلف البعيد الجامد الساكن.