بعد الخسائر التي لحقت بالحرس الثوري الإيراني في سوريا والعراق، وجه المرشد الأعلى للثورة الإيرانية آية الله علي خامنئي عدة اتهامات ضد تنظيم داعش، مع تأكيده على أن التنظيم من صنيعة الولايات المتحدة لتقويض وحدة العالم الإسلامي. القلق الرئيسي الذي تعيشه إيران حاليا هو أن يترسخ «داعش» في العراق وسوريا، مما سيولد ردود فعل من شأنها أن تؤدي إلى زيادة عزلتها السياسية. «لا تسمحوا للغرب المنافق بأن يقدم لنا مجنديهم من الإرهابيين كممثلين للإسلام»، هذا ما كتبه خامنئي على موقعه على الإنترنت في 21 من الشهر الماضي. وكان في لقائه مع رجال الدين قال في 24 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي: «إن جماعات التكفيريين التي ظهرت في المنطقة هي مشكلة تسببت بها غطرسة العالم تجاه العالم الإسلامي، وكان القصد منها إضعاف الصحوة الإسلامية وخلق حرب أهلية ما بين المسلمين». وأضاف: «ما ترتكبه هذه الجماعات تدعمه الولايات المتحدة، ينبغي التركيز على معالجة متعددة الأوجه لهذه الجماعات التي تشمل (داعش)، ويجب إنشاء حركة علمية لاستئصالها». وكان في خطبة أمام قبر الخميني في 4 من يونيو (حزيران) الماضي قال: «هناك عدة مجموعات في العالم الإسلامي تعمل ضد إيران والشيعة والإسلام، لكن هؤلاء ليسوا الأعداء الحقيقيين. العدو الحقيقي هو من يمول ويقف وراءهم». وأضاف: «لا تنظروا إلى الصورة من قرب عن الانقسام السني - الشيعي، انظروا إلى أبعد من ذلك، إلى الانقسام ما بين الغرب بقيادة (الشيطان الأكبر) وكل الإسلام». هذه التصريحات تسلط الضوء على التفكير العميق لخامنئي، يقلقه انتشار وترسخ «داعش» في العراق وسوريا وربما في دول أخرى مما سوف يؤدي إلى تدخل عسكري أوسع وأشمل بقيادة التحالف الدولي في منطقة تراها إيران بأنها «ملعبها الخلفي». فمن جهة يتخوف المرشد من أن هذا التدخل الغربي سوف يخفض النفوذ الإيراني، لكن من جهة أخرى فإن تجاهل مشكلة «داعش» من الممكن أن يشكل هلالاً من «المتشددين الكفار» يحيط بإيران من الشرق إلى الغرب. وللحالتين النتيجة نفسها: زيادة العزلة السياسية لإيران في المنطقة. وأبعد من ذلك، فإن اتهام المرشد للغرب بأنه السبب في كل ذلك، يعكس عدم اهتمامه بالتعاون مع الغرب في القضايا الإقليمية، بما في ذلك التحدي الذي يمثله «داعش»، على الرغم من المصالح المشتركة في إلحاق الهزيمة بتنظيم «أبو بكر البغدادي»، لأن آخر ما يريده المرشد هو تحسين العلاقات مع الولايات المتحدة فهذا من شأنه على المدى الطويل أن يؤدي إلى تغيرات اجتماعية وثقافية داخل إيران يمكن أن تنأى بالشعب الإيراني عن «القيم الحقيقية» للثورة الإسلامية. المولجون بتحويل تصريحات المرشد إلى سياسة وفعل على الأرض هم أولاً وقبل كل شيء رؤساء المؤسسة الأمنية والسياسية، علي شمخاني رئيس المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، وهو صاحب شخصية قوية لا يخضع للحكومة، ولكن علاقته مباشرة مع المرشد. يعمل بالتوازي مع الحكومة برئاسة حسن روحاني جنبا إلى جنب مع قادة الحرس الثوري والقوات المسلحة لوضع الخطوط العامة للسياسة الخارجية الإيرانية. الرقم الأول في تنفيذ هذه السياسة هو قاسم سليماني قائد «فيلق القدس»، نخبة الحرس الثوري. هذه الشخصيات ليست دائما على وفاق حتى عندما تتعلق النزاعات بقضايا يكون حولها إجماع نسبي، مثل دعم «محور المقاومة» (إيران - سوريا - حزب الله في لبنان، ومجموعات أخرى موالية لإيران في المنطقة). في مناسبات كثيرة، كانت الاختلافات نتيجة الصراع على السلطة التنظيمية والفردية بدلا من طبيعة وجوهر السياسة. مثال على ذلك، يمكن الركون إليه عبر الكيفية التي ينظر إليها صناع القرار في إيران إلى الخسائر المقبولة أثناء تحقيق سياسات النظام، إذ أدى مقتل أو أسر ضباط من الحرس الثوري في العراق وسوريا إلى تبادل الاتهامات بين الأطراف. ويعتبر روحاني براغماتيا حذرا، ويفضل أن ينأى بنفسه عن القتال في سوريا والعراق، وبالتأكيد لا يريد أن يدفع الثمن بدماء الجنود الإيرانيين، من ناحيته يرى سليماني أن التضحية و«الاستشهاد» جزء لا يتجزأ من المعادلة نظرا لقدسية الهدف. إنما على الرغم من درجة الصراع العالي الداخلي، هناك اتفاق واسع النطاق في المؤسسة الأمنية الإيرانية بأنه يمكن التضحية ومن دون تردد بالجنود أو المتطوعين الشيعة غير الإيرانيين، من أجل القضية. لهذا يتكفل سليماني بنقل الأموال والعتاد، ويوفر التدريب والمساعدة ليس فقط لـ«حزب الله» في لبنان، ولكن أيضا لميليشيات شيعية في العراق، وكذلك للشيعة الأفغان وللبيشمركة الأكراد. في العراق وفي ظل حكومة الوحدة التي يرأسها حيدر عبادي، وسعت طهران دورها السياسي والعسكري والأمني في البلاد. وعكس ما كانت تنفيه في السابق، صارت تؤكد على مشاركتها علنا، قدمت دعما واسع النطاق للميليشيات الشيعية وللبيشمركة، لكنها امتنعت عن إرسال قوات كبيرة إلى الساحة. وفي الأشهر الأخيرة اعترفت طهران أيضا علنا، بتورطها في القتال ضد «داعش»، مبررة ذلك باعتبارها «حامية العراق». وكشفت لأول مرة وبشكل لافت، عن الدور المباشر لسليماني في هذا المجال، وصوره إلى جانب رجال الميليشيات الشيعية في العراق تظهر على الكثير من شبكات الإنترنت. «حملة سليماني» تخدم سليماني في إظهار نفسه محليا وإقليميا كالشخص الرائد في وضع الخطوط العريضة وتنفيذ سياسة إيران في الشرق الأوسط، لا سيما بعد التقارير عن فشله في العراق على أثر غزو «داعش» الموصل، وتعزيز موقف شمخاني. وبنظرة أبعد فإن هذه الحملة تخدم مصلحة إيران في التأكيد على نشاطها ضد «داعش» بالنسبة إلى الغرب والعالم العربي خاصة على خلفية المفاوضات النووية. وحسب محللين عسكريين، تظهر الصور المأخوذة في ميدان المعركة في العراق أن إيران زودت الميليشيات الشيعية التي تعمل تحت رعايتها (بقيادة منظمة بدر، وعصائب أهل الحق وكتائب حزب الله) مجموعة متنوعة من الأسلحة من إنتاج إيراني بما في ذلك قاذفات صواريخ، وسيارات جيب، ورشاشات ثقيلة. وذكرت تقارير أخيرا، أن هذه الميليشيات التي يرتبط قادتها بعلاقات وثيقة مع كبار المسؤولين الإيرانيين بما في ذلك خامنئي نفسه، هي المسؤولة عن التطهير العرقي للسنة في مناطق القتال التي تنتشر فيها. أما فيما يتعلق بسوريا، فحتى ظهور «داعش»، كان الرئيس بشار الأسد يعتبر المنتصر، لأنه تمكن من الحفاظ على حكومته، لكن ما جعل الوضع أكثر تعقيدا الآن هو أنه جنبا إلى جنب مع تعزيز «داعش» في الشرق، تفاقم الوضع في الجنوب مع معارك النظام وجبهة «النصرة»، الأمر الذي يهدد دمشق ويضعف أهم عنصر تعتمد عليه إيران، أي «حزب الله». في النهاية، إن الإشادة بنشاط «فيلق القدس» في العراق وسوريا يخدم مصالح إيران ويظهرها بأن لها دورا كبيرا في إلحاق الهزيمة بـ«داعش» أبعد من الإنجازات المحدودة التي يمكن أن تحققها غارات التحالف الدولي الجوية. وعلى الصعيد الداخلي، يقلل المخاوف من إمكانية اختراق «داعش» لإيران. وطالما لا تزال أعداد الضحايا الإيرانيين منخفضة، فإن سليماني سيظل قادرا على تبرير دعمه للميليشيات الشيعية وبالذات «حزب الله»، والبيشمركة، وبالتالي، فمن المتوقع أن يبقى موضع «فيلق القدس» في ميزان القوى الداخلي في إيران مستقرا.