نستذكر من التاريخ، قبل 77 عاماً عندما دشن الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود أول بئر نفطية، وخلّف -طيب الله ثراه- إرثاً عظيما تمثّل في وحدة وطنية تزهو بها الجزيرة العربية والأمتان العربية والإسلامية؛ حتى أصبحت ذات مكانة مؤثرة في السياسة والاقتصاد العالمي. فاضت الأرض عبر العقود السبعة الماضية بالخير الوفير الذي أنعم الله به على هذه البلاد وأهلها؛ فجعل الله -بفضله وكرمه- اليسر بعد العسر، وانفرجت ضائقة الموارد المالية إلى بحبوحة ورغد في العيش وتحول الوطن إلى ورش أعمال للبناء والتعمير في سباق مع الزمن. كل حقبة زمنية لها إيجابياتها وسلبياتها، وفكرها وتفكيرها، ودروسها وتجاربها. الدول تؤسس على الإنجازات الناجحة وتُعزّز من قيمتها، وتؤكد تقارير التنمية البشرية أن البشر هم أساس ثروة الأمم، وأن التنمية تتم بالإنسان، ومن أجل الإنسان، فهو غاية التنمية ووسيلتها الرئيسة، والبشر هم منبع الأفكار والريادة والإبداع والابتكار والاختراع، فبغض النظر عن وفرة الموارد المتاحة للتنمية، فإنها قليلة الأهمية إذا لم يتوافر الإنسان القادر على استثمارها واستخدامها على أفضل وجه ممكن، ويظل الإنسان بجهده العقلاني المنظم المؤثر الأهم في مواقع العمل والإنتاج كافة، ومن ثم هو المصدر الأساس لتوليد القيمة المضافة وتطويرها بشكل مستدام. صناعة المستقبل تتطلب أن يكون المسؤول إستراتيجياً في رؤيته وممارساته؛ والإستراتيجية كما يُعرّفها ديف أولريتش وكيت سويتمان في كتابهما: «شفرة القيادة»؛ أن يكون لدى المرء تصور واضح للهدف الذي يسعى لتحقيقه، ويتجنب الوقوع في الأخطاء الشائعة للإستراتيجيات، بعدم ترك الإستراتيجية لتصبح مجموعة من الأماني المستقبلية الطموحة، من دون تفاصيل تحقيق الأفكار، وعدم افتراض أن مجرد تحليل الوضع الراهن والتنبؤ من خلاله بالمستقبل هو ما نطلق عليه إستراتيجية؛ وألا نجعل نجاحات الماضي تُملي علينا الخيارات الإستراتيجية المستقبلية، وعدم التركيز فقط على التحسينات البسيطة التي يبدو لك أنها تجنبك المخاطر، ولكن من المهم التركيز على الاستفادة من دروس الإخفاقات والتجارب الفاشلة. الشّغف بالتطوير والتنمية المُستدامة، والحرص على التفاعل مع المجتمع لصياغة وجهات النظر تجاه المستقبل، وترجمة الطموحات الإستراتيجية إلى أفعال ونتائج وواقع ملموس، صفات تجعل اسم القائد وتاريخه محفورين في أذهان الناس. توطين التقنية واستثمار القيمة المضافة أصبحا صديقين للحضارة في عصرنا الحالي، والقدرات التنفيذية للقائد تكمن في القضاء على معوقات التغيير والتطوير، وفايروسات المصالح الذاتية التي تنظر لكل شيء من خلال منافعها وأرصدتها الخاصة. أسعفنا الحظ خلال الحقبة الزمنية الماضية في استثمار عائدات النفط لمواكبة النمو، ولم نتمكن من بناء وتأسيس تنمية مستدامة تكون إرثاً نطمئن من مكوناته على مستقبل الأجيال المقبلة. لا يزال النفط يؤرجح إيرادات ومصروفات الحكومة السعودية ودول الخليج بصفة عامة. وتأثيره البالغ في صناعة النمو في دول الخليج، يؤجج الارتباك الموازنات حال انخفاض الطلب والأسعار، وتصاب الشعوب في دول الخليج باكتئاب نفسي؛ لارتباطها التاريخي بأسواق النفط، وعدم الثقة في عوائد المصادر البديلة. لم يتحدث الملك عبدالله بن عبدالعزيز- رحمه الله- عام 2011، من فراغ عندما طلب من الوزراء في جلسة المجلس الدعاء بطول العُمر للنفط؛ إنها من وجهة نظري رسالة بليغة العبارة، واضحة المعنى والإشارة. اطمأن في ذلك الوقت للملاءة المالية للدولة، بعد الخلاص من تراكم الديون وتبعاتها، وكانت أسواق النفط تشهد نمواً كبيراً على الطلب والأسعار. أعتقد بأن الملك عبدالله بن عبدالعزيز، في تلك اللحظة التي قال فيها عبارته الشهيرة للوزراء: «الله يطوّل عُمْر البترول» كان يمزج بين قراءة الحاضر والمستقبل، ويوجّه نقداً ذاتياً للوزراء، وسؤالاً مُبطناً؛ ماذا نحن فاعلون من دون عائداته؟ أُعيد قراءة عبارة الملك عبدالله، في وقت يشهد فيه النفط انخفاضاً على الطلب وفي الأسعار، وشهدنا خلال الأشهر الماضية حالات الاكتئاب التي أصيبت بها أسواق الأسهم الخليجية، والسعودية على وجه الخصوص، وتسابق وزراء المالية على الإفصاح عن عجز هائل في الموازنات المقبلة، إضافة إلى الإعلان عن برامج الاقتراض؛ لتغطية هذا العجز؛ ولا أغفل الظروف الاستثنائية الناتجة من تكاليف حرب عاصفة الحزم وإعادة الأمل، وكذلك الأعباء الخطرة المُحيطة بالجزيرة العربية. لقد حان قبل فوات الأوان، إعادة التفكير بشكل جدّي، في صياغة إستراتيجية ومسارات تنظيمية جديدة، ومبادرات عاجلة لاستثمار مكامن القيمة المضافة للنفط وعوائده، إذا كُنَّا نهدف لتنمية مستدامة تحيط اقتصاد السعودية بسياج آمن يُقلل من آثار حالات الارتباك والعجز في الاقتصاد الكُلِّي، المرتبط بشكل مباشر بالنفط وتقلباته السعرية المحفوفة بالمخاطر. بدلاً من أن نكون ضيوفاً ثقالاً على النفط ومشتقاته.. لماذا لا نُحوّله إلى صديق دائم لنا وللأجيال المقبلة في الحاضر والمستقبل، ونُلغي من قواميسنا حالات القلق والارتباك التي تُصيبنا عند انتكاسة أسعاره وقلة الطلب عليه، وشيخوخته وتقاعده؛ وإلا سنظل مأسورين للدعوة «اللهم طوّل عُمْر البترول وعافي أسعاره»، من دون التزام بالأمر الإلهي العظيم الذي أوجب الإخلاص في العمل.