هل صحيح ان «داعش» موجودة فى مصر؟ ــ هذا السؤال وجه إلىَّ أكثر من مرة فى الآونة الأخيرة، بعدما أصبح الاسم يتردد كثيرا فى وسائل الإعلام مرتبطا بالعديد من الجرائم الوحشية التى روعت الجميع، وكان أقربها إلى الأذهان إحراق الطيار الأردنى وقتل مجموعة العمال المصريين. إجابتى على السؤال كانت كالتالى: • الأصل انه لا وجود لداعش فى مصر. وإذا كانت بعض المجموعات السلفية المتطرفة فى سيناء قد فتنت بصعود نجمها فى العراق وسوريا، فقررت ان تنضم إليها خصوصا بعد إعلان ما سمى بالدولة الإسلامية، فإن ذلك يحصر وجود أفكارها فى حدود سيناء. وليس هناك أية شواهد عملية تدل على ان ذلك الوجود ظهر فى مكان آخر بمصر. لا على مستوى العنف الذى عرفته المدن المصرية، ولا على مستوى الخبرة وكفاءة الأداء. حتى جرائم القتل التى وقعت بصفة استثنائية واستهدفت بعض رجال الشرطة فقد كان لها سياقها الخاص واسلوبها المختلف. • على الصعيد المعرفى، لا يوجد أى مصدر موثوق به تحدث عن وجود لداعش فى مصر. وهناك اتفاق على أن ذلك التنظيم ينطلق من عقيدة السلفية الجهادية، وانه يمثل جيلا متطورا من تنظيم القاعدة الذى ظهر فى أفغانستان. وبعد الاحتلال الأمريكى للعراق عام ٢٠٠٣ برز إلى الوجود تنظيم القاعدة فى بلاد الرافدين كأحد فصائل المقاومة التى انخرط فيها أهل السنة وقد أسس ذلك التنظيم فى عام ٢٠٠٤ الأردنى أبومصعب الزرقاوى، إلا أنه دخل فى تنسيق مع فصائل السنة الأخرى حمل اسم مجلس شورى المجاهدين الذى كان وراء مشروع إقامة الدولة الإسلامية فى العراق والشام، وكان كلمة «داعش» بمثابة تجميع للأحرف الأولى من الكلمات الثلاث (الدولة والعراق والشام). ولابد هنا من ملاحظة ان اسم مصر لم يرد لا من قريب أو بعيد على بال مؤسس مشروع الدولة. بعد مقتل أبومصعب الزرقاوى المؤسس وتولى أبوكر البغدادى زعامة التنظيم، وهو من أعطى دفعة قوية لمشروع الدولة الإسلامية، اتسعت الفجوة بين داعش وبين تنظيم القاعدة الذى لم تقر قيادته المدى الذى ذهبت إليه داعش فى القسوة والوحشية، وكان ذلك سببا فى الفراق بين التنظيمين الذى انتهى بالقطيعة بينهما. وهو ما يسوغ الادعاء بأن داعش تخلت عن «الأفغنة» ودخلت بممارساتها الوحشية فى طور «العرقنة». • الخلفية السابقة مذكورة فى مختلف الدراسات المرجعية التى تحدثت عن تنظيم داعش. إلا أن صحيفة «الجارديان» البريطانية نشرت فى ١٢ ديسمبر ٢٠١٤ تقريرا مهما عن حكاية الدولة الإسلامية، أعده مارتن جولوف أحد الخبراء المتخصصين فى الشرق الأوسط. واعتمد فيه على معلومات مصدرها أحد القياديين فى داعش، وقد أضاف إلى ما سبق أمرين مهمين هما، ان فكرة إقامة الدولة الإسلامية تبلورت فى عام ٢٠٠٤ أثناء وجود رموز فصائل المقاومة العراقية فى سجن معسكر «بوكا» الذى أقامه الأمريكيون. أما المعلومة الثانية فهى ان ممثلين عن المخابرات السورية حضروا اجتماعين سريين لقادة تنظيم الدولة الإسلامية عقدا فى منطقة الزبدانى قرب دمشق، فى ربيع عام ٢٠٠٩. وكان بعثيون عراقيون ممن لجأوا إلى سوريا بعد سقوط نظام الرئيس صدام حسين هم الوسطاء الذين رتبوا ذلك اللقاء. • من زاوية التحليل التاريخى ثبت أن الأفكار لا تهبط على المجتمعات فجأة من السماء، ولكن لها سياقها الذى يستدعيها ويشكلها. فقد تخرج من بيئة مواتية وحاضنة، أو تبرز استجابة لظرف تاريخى معين. فعنصر البيئة يفسر انتشار مذهب ابن حنبل فى الجزيرة العربية. كما يفسر تغيير الإمام الشافعى لمذهبه حين انتقل من العراق إلى مصر. وقسوة الخوارج وغلظتهم وثيقة الصلة بالبيئة الخشنة التى خرجوا منها. وإذا وضعنا تلك الخلفية فى الاعتبار. فسوف نجد أن وحشية داعش من أصداء وحشية النظاميين البعثيين فى كل من العراق وسوريا. ومن ثم لا مبالغة فى القول بأن ذلك التنظيم ابن شرعى لذينك النظامين. وهذه الفكرة ذاتها تستبعد امكانية زرع التنظيم فى مصر، لأن البيئة تلفظه ولا تحتمله. وعلى اسوأ الفروض فإذا ظهرت أصداء له فى المجتمع المصرى بتركيبته ونسيجه الذى يعرفه الجميع فإنها لا تصبح مرشحة للاستمرار أو النماء. • ذلك لا ينفى ان فى مصر تكفيريين، منهم من يكفر المسلمين ومنهم من يكفر غير المسلمين وأمثال هؤلاء موجودن فى مختلف الديانات. ورغم انهم يظلون شذوذا فى محيط المتدينين وشرعيتهم غير معترف بها فى الساحة الإسلامية، إلا أننا يجب أن نلاحظ أن التكفيريين بدورهم درجات. ذلك اننا لم نعرف مثلا ان تنظيم القاعدة ــ على عيوبه وعلالته ــ ارتكب الجرائم الوحشية التى أقدم عليها تنظيم داعش. وقد سبقت الإشارة إلى أن هذه النقطة بالذات كانت من أهم عوامل المفاصلة بين التنظيمين رغم انتمائهما إلى جذور فكرية واحدة متمثلة فى عقيدة السلفية الجهادية، التى تختلف عن السلفية الدعوية التى لا تؤمن بالعنف ومنها من يرفض الاشتغال بالعمل السياسى أصلا. إذا سألتنى بعد ذلك، لماذا إذن يلح البعض على أن داعش موجودة فى مصر ومنهم من يدعى أنها صناعة مصرية؟ ردى على ذلك ان هذا الطرح خارج المعرفة وخارج التاريخ. وهو من قبيل التوظيف السياسى للحدث، الذى لا يتورع عن الكذب والتدليس لتكريس شيطنة الآخر والكيد له. وهو سلوك يستلهم المثل القائل بأن كل ما يمكن أن تكسب به، لا تتردد فى أن تلعب به، بصرف النظر عن المعارف والحقائق وحتى الأخلاق. يخطر لى أحيانا أن أصحاب تلك الدعاوى سوف يسرهم أن تنتشر داعش فى مصر، بحيث يتحول قطع الرءوس وذبح البشر بالسكين أو إحراقهم أحياء إلى ظاهرة فى المجتمع، وربما رأوا أن ذلك سوف يكسبهم نقاطا فى مواجهة خصومهم. فضلا عن انه سيكون مبررا لتوسيع نطاق القمع وإقامة قواعد النظام الفاشى الذى هتف بعضهم له. أما ما يصيب الوطن آنذاك فهو لا يعنيهم كثيرا وليس ضمن حساباتهم. وفى هذه الحالة فلن تكون المشكلة محصورة فى دعاواهم، ولكن المشكلة الأكبر ستكمن فيمن يصدق زعمهم ويمضى وراءهم. *نقلا عن جريدة "الشروق" المصرية