جميل مطر كاتب مصري مختلف. أهم ما يميّزه أنه لا يكتب عن أحد في مصر، بل يكتب عنها. الأربعاء الماضي، كتب مقالاً في جريدة «الشروق» المصرية عن «القوة الناعمة» لمصر. كانت احتفالات قناة السويس الجديدة سبباً في طرح هذا الموضوع، فالمناسبة عاودت ترديد «غالبية الموسيقى والألحان والأغاني المصاحبة لها، التي تنتمي في معظمها إلى حقبتي الخمسينات والستينات من القرن العشرين، وقلة منها إلى الأربعينات أو السبعينات»، كما ذكر رئيس تحرير «الشروق» الصحافي عماد الدين حسين، في مقال نشره لمناسبة افتتاح القناة، بعنوان «نعيش على إبداع الخمسينات والستينات». مطر اعتبر أن معاودة استخدام فنون مصرية عمر بعضها تجاوز نصف قرن، تكفي دليلاً على تدهور «ترسانة القوى الناعمة المصرية»، ودافع مهم للاعتراف بأن هذه القوة «فقدت جاذبيتها وأننا توقفنا عن توليد قوى ناعمة جديدة». أتَّفقُ تماماً مع جميل مطر على أن القوة الناعمة هي سلاح مصر الأول. لكن القول إن قوة مصر الناعمة تدهورت إلى حد انعدام تأثيرها في العالم العربي، ينطوي على مبالغة. صحيح أن حجم التأثير واتساعه تغيَّرا، ولكن لا بد من الاعتراف بأن تراجع الاقتصاد المصري، وتبدُّل مزاج شعوب المنطقة، ودخول وسائل اتصال جديدة، وانفتاح الشباب المصري والعربي على ثقافات الآخرين وفنونهم، فضلاً عن هيمنة الخطاب الديني، وتنامي ثقافة «التزهيد» بالفن وقيمته، كل ذلك كان له تأثير كبير على هذا التراجع. لكنه تراجع موقت ومحدود، وما زال العالم العربي، وسيبقى، يعيش على قوة مصر الناعمة. جميل مطر أشار في مقاله إلى تأثير ما سمّاه «القوى الصاعدة في المنطقة» على «تقييد نفوذ مصر الإقليمي بحرمانها من إحدى أهم قواها على الإطلاق»، و «تدخّل الممول الأجنبى لفرض مسلسلات وأفلام سينمائية بعينها». هذا التدخُّل، الذي يراه مطر سبباً للتراجع، وعاملاً سلبياً إزاء قوة مصر الناعمة، فعل العكس. وهو سخّر إمكانات إنتاج ضخمة، وقدّم أعمالاً مصرية لم يقدم عليها المنتج المصري، كان أبرزها مسلسل «الملك فاروق»، وغيره من الأعمال التي كرّست عظمة الفنانين المصريين، ونقلت صورة مصر المتحضّرة إلى جميع المشاهدين العرب، فضلاً عن أنها كشفت استحالة إنتاج أعمال مهمة من دون مصر والمصريين. لا شك في أن الاقتصاد والحرية هما جناحا ازدهار القوة الناعمة. ومن يقرأ تاريخ الفنون في مصر، أو قوة مصر الناعمة، سيجد أن تطورها وازدهارها مرتبطان بهذين العنصرين. والاعتقاد بأن دخول المموِّل الأجنبي سيخطف هذا الدور من مصر، أحد عوامل ضعف هذه القوة. فالسينما الهندية سمحت بدخول رؤوس أموال أجنبية إليها، وبقيت «تتكلم هندي»، وتطورت، ووصل تأثيرها إلى العالم. الأكيد أن لدى مصر كنزاً ثميناً لكنها لا تقدِّر قيمته حق قدره، وتطوره مرتبط بتسهيل دخول المستثمرين الآخرين إليه. مصر فتحت أبوابها لفنانين أصبحوا نجوماً في دولهم، ولم يتأثر الفن في مصر بل زاد، فلماذا لا تفتح الباب على مصراعيه للاستثمار في القوة الناعمة لكي لا تبقى هذه القوة أسيرة الوضع الاقتصادي للبلد؟ لا بد من تحرير قوة مصر الناعمة من قيود المرحلة الاشتراكية. قوة مصر الناعمة تستعصي على الخطف، ويستحيل تجاوزها.