تقول موسوعة ويكيبيديا عن ولاية كيرلا الهندية: «جذبت ولاية كيرلا على مر العصور التجار والباحثين عن البهارات والعاج»، ولذلك قصدها الفينيقيون والعرب والرومان والصينيون. كما وصلها المستكشف البرتغالي فاسكو دي جاما عام 1498. وأبحر إليها الهولنديون عام 1604، أما الإنكليز فاحتلوها رسمياً عام 1800 على رغم وجودهم في البلاد قبل عشرات السنين. نالت كيرلا الاستقلال مع بقية الولايات الهندية في 15 أغسطس عام 1947. وتحمل كيرلا اليوم لقب «الولاية المثقفة»؛ لأن نسبة طلاب المدارس والجامعات فيها في ارتفاع مستمر، ولكنها لا تزال من أفقر الولايات الهندية. كان رميش قبل ربع قرن من الزمان من شباب كيرلا الفقراء غير المُتعلمين، التقى صديقه كومار العائد من الرياض في إجازة سنوية. كان رميش ينظر إلى حالة التغير المادية التي أصبح عليها صديقه السائق كومار، حضر مناسبة زواجه، ثم ودّعه على أمل لقاء في الرياض. بدأ كومار رحلة البحث عن كفيل لصديقه رميش، كان العائق أمامه أن صديقه مُعدم المهارات إلا من بنية جسمانية قادرة على التحمل. نجح كومار في المهمة، وكانت مؤسسة للمقاولات محطة رميش الأولى في العاصمة السعودية الرياض. وصل رميش قبل ٢٥ عاماً إلى الرياض، عانقه صديقه كومار في المطار، واستضافه في غرفته ليلتين وألقى عليه من النصائح ما جعله يشعر بأنه ليس وحيداً في غربته، أوصله إلى مقر مؤسسة المقاولات بعد أن زوده برقم هاتف ليبقى التواصل بينهما مفتوحاً. دخل رميش مقر المؤسسة، وبعد فترة انتظار طويلة - هَزّ فيها رأسه كثيراً للسلام على الداخل والخارج - وصل المهندس معصراوي، كان مُنفعلاً ويتحدث مع العمال بصوت مُرتفع، وقف رميش احتراماً لرجل اعتقد أنه المدير، صاح معصراوي: مين ده، وعايز إيه، اسمك إيه؟ كانت هَزَّة رأس رميش هي الجواب! بعد فترة إهمال استمرت أسبوعاً، دعت الحاجة لأن يكون رميش حارساً لمشروع بناء عمارة تنفذها المؤسسة، لقّنه معصراوي «القاسي»، بمساعدة نجار هندي يعرف قليلاً من العربية؛ درساً في أهمية الحرص والاهتمام وشدة المراقبة، ثم أودعوه مع حقيبته الصغيرة غرفة حارس بناء العمارة. بدأ ينظر إلى الغرفة «البلوكيِّة» المسقوفة بقطع من خشب، شديدة الحرارة برائحة أسمنتية - لا تختلف مع حياة عاشها مع أُسرته في أحد أحياء كيرلا الفقيرة - معدومة الخدمات. اتصل على وجه السرعة بصديقه كومار، وسرد عليه قصة الأسبوع الأول، وكان كومار الذكي وصاحب التجربة العشرية في الرياض؛ يستمع باهتمام لأحداث ذلك الأسبوع التي واجهت صديق طفولته، ضحك كومار - وهو العارف بمعاناة مئات العمال حال وصولهم - وقال له: حضرت إلى هنا وأنت لا تعرف شيئاً، اليوم استمع واصبر ونفذ بالحرف ما يطلب منك، وغداً عندما تتدرب وتتعلّم صدّقني سيستمعون إليك! أتقن رميش مواعيد رش الصّبات الأسمنتية بالمياه، وكانت الدرس الأول في رحلة تدريب حارس العمارة، وحافظ على مواد البناء ونظافة الموقع، وكان يُراقب باهتمام تفاصيل عمليات البناء، واندمج في تقديم المساعدة للجميع حتى اكتمل بناء العمارة الذي استمر ثلاثة أعوام تضجّر خلالها كثيراً من تأخير دفع الرواتب من قبل المؤسسة التي يعمل بها. تَنقّل لأعوام خمسة أخرى من مشروع إلى آخر، وتدرّج في التدريب الميداني حتى اكتملت ثقته بنفسه، وبعدها دخل رميش واثق الخطوة متدرّباً، لمكتب معصراوي المدير التنفيذي للمؤسسة، جلس وقال له: لم أعُد بحاجة للعمل بهذه المؤسسة، وأريد خطاب تنازل لنقل الكفالة؟ اكفهر وجه معصراوي وقال لرميش وهو يضرب بيده على المكتب: بعد أن درّبناك وصبرنا عليك تطلب نقل الكفالة، اخرج، اخرج. رَدّ عليه بهدوء وثقة، «أنت يا معصراوي فيه بكالوريوس في القانون، إيش يعرف أنت في مقاولات، أنت تعليم وأنا تعليم، أخو أنت مزارع ويعمل في المؤسسة نجار، كُلِّه نَفَر تعليم، كهرباء، سباكة، نجارة، حديد، ألومنيوم، تركيب بلاط حجر، السعودية «مدرسة كبير» الحمد لله»، بعد مُفاوضات ماراثونية، دفع رميش مبلغ ٢٠ ألف ريال للمؤسسة مقابل التنازل والموافقة على نقل الكفالة. رميش، القادم من كيرلا مُعدم الشهادات والمهارات أصبح مُعلّماً، يُحدد المواعيد وأصحاب الحاجة يستمعون إليه «كما قال له صديقه كومار ذات يوم»، يُدير أعماله عبر الهاتف المحمول، مكتبه في سيارته، وفي المقاعد الخلفية كأني أشاهد «رميشيين قادمين» للتو من كيرلا، اليوم يهزّان رأسيهما استجابة لبيت الطاعة التدريبي القاسي، وغداً سنراهما في موقع رميش الكبير! تحية إعجاب لرميش، الذي وصل لهذه البلاد مُعدم المهارات، واستثمر المساحة المفتوحة للتعلُّم والتدريب حتى أصبح معلماً، وحسرةً على شباب يتسابقون على أعمال في مكاتب مكيفة يجمعون رواتب مصيرها في النهاية لجيوب أكثر من ١٠ ملايين وافد. وحسرة أكبر على أجهزة تقود التعليم والتدريب، وفَّرت لها البلايين ولا تزال تنافح من أجل حلول البطالة ومخرجات التعليم، في خُطبنا ومحاضراتنا نقول ونُردد أن التنمية تتم بالإنسان ومن أجله، والبشر هم أساس ثروة الأمم، وأرجو ألا يطول بِنَا المقام ونحن نُردد... يا زماناً ضاع في الزّمنِ!