هناك ظاهرة غريبة تتكرر عندما تذهب البعثات الإغاثية الإنسانية المكونة من جنسيات أوروبية وأفريقية إلى إحدى المناطق المتوترة بالصراعات في أفريقيا، ذلك أنه عندما تهجم ميليشيا مسلحة على هذه الفرقة فإنها تعامل الموظفين معاملة غير متساوية: تقتل أو تترك الأفارقة، لكنها تخطف الأوروبيين مع الحرص على إبقائهم على قيد الحياة. السبب وراء هذا التمييز في التعامل، هو أن هذه الميليشيات تعرف جيداً أن روح الأوروبي ثمينة، ويمكن مقايضتها بالمال، في حين أن أرواح غيره لا تستحق كلفة خطفه. هذه الحسبة الاقتصادية ذات الدم البارد، هي التي حاول المفكر الفرنسي ديدير فاسين فهمها عندما نحت مصطلح: سياسات الحياة. ما يريد فاسين أن يقوله هو أنه حتى في المشاريع التي تنطلق من نظرة مساواتية للإنسان، نجد نوعاً من الهرمية وعدم التساوي بين البشر، أي أن أرواحهم لها قيم غير متساوية وهذه القيم تؤثر في قرار الخاطف (من يستحق الخطف ليقايض بالمال؟)، وقرار من يقدم المساعدة (من يستحق هذه الموارد الناضبة؟)، وقرار المنظمة الإنسانية (إلى أي مدى نعرض موظفينا للخطر في مساعدة الآخرين؟). فمهما كانت المنظمة الإنساني تدعي بعدها عن السياسة، فإنها مضطرة لاتخاذ مثل هذه القرارات السياسية، وهي سياسية لأنها تشترط وجود القوة كي يتم اتخاذها. قبل الربيع العربي، كان العرب يعرفون كيف أن الصراع مع إسرائيل انتهى إلى حال أصبحت فيه قيمة روح الصهيوني الواحد عالية لدرجة أن القبض عليه حيّاً يكون كفيلاً بمقايضته بعدد كبير من الأسرى الفلسطينيين. لكن بعد الربيع العربي، اكتشفنا أن الأنظمة والكيانات السياسية جعلت من أرواح العرب غير متساوية، وأنها تختلف قيمتها بحسب الطائفة. في نهاية عام ٢٠١٢، ونتيجة لقيام نوري المالكي بإلقاء القبض على وزير المالية العراقي رافع العيساوي، اشتعلت مظاهرات سلمية في ست محافظات عراقية تقدمت بمطالبات، سميت بالمطالبات الـ13، وهي المظاهرات التي اتهمتها الحكومة بأنها ممالئة للقاعدة، ثم قمعتها بعد قرابة الثلاثة أشهر في أحداث الحويجة حيث قتل العشرات من المتظاهرين. في المقابل، لما بدأت المحافظات الجنوبية العراقية بالتظاهر ضد الحكومة، نجد كبار السياسيين في الحكومة يتسارعون إلى إعلان وقوفهم مع المتظاهرين، وتقوم القوات الأمنية والجيش بحراسة المتظاهرين، وتتدخل المرجعية الدينية لإجبار الحكومة على اتخاذ إصلاحات وعزل الفاسدين وتقديمهم إلى المحاكمة، من بينهم نوري المالكي نفسه. كلهم عراقيون، كلهم خرجوا ضد الحكومة، كلهم مسالمون، إلا أن الحكومة تعاملت بشكل مختلف. في سورية، بدأت الثورة من القصة المشهورة التي حدثت في درعا. صبية كتبوا كتابات تحاكي شعارات الربيع العربي ضد النظام السوري، فواجهها المسؤول الأمني هناك العميد عاطف نجيب بقسوة، حيث اعتقل الصبية ويقال إنه عذبهم أو قتلهم، فاستشاط الأهالي غضباً فتظاهروا لهذه المعاملة القاسية من السلطات، فما كان رد النظام إلا قتل المحتجين واعتقالهم. قبل أسابيع، قام أحد أقرباء الأسد، واسمه سليمان هلال الأسد، بقتل شخص من الذين قاتلوا دفاعاً عن نظام الأسد في اللاذقية، وهي الحادثة التي انطلق على إثرها أهالي اللاذقية إلى الشوارع محتجين على هذا السلوك. فكانت ردة فعل النظام مختلفة. إذ تم إلقاء القبض على قريب الرئيس وتعهد النظام بإحالته إلى المحاكمة. الجرم نفسه، طريقة الاحتجاج نفسها، لكن التعامل مختلف. قبل أسبوعين أيضاً، ونتيجة للحصار والقصف المستمر الذي يشنه النظام وحزب الله ضد الزبداني، قامت كتائب من قوات المعارضة السورية بالرد، لكن ليس على المهاجمين على الزبداني، بل على قريتي: الفوعا وكفريا. منطق عمل المعارضة: مقايضة أرواح من في الزبداني بأرواح من في تلك القريتين. وفعلاً، استجاب النظام وحزب الله وإيران، وتم إيقاف إطلاق النار، وتم التفاوض. ماذا تقول هذه الأمثلة؟ إنها تقول أن الفاعلين السياسيين في العراق وسورية باتوا يقيمون الناس بحسب طوائفهم، وباتت روح المرء هناك تختلف باختلاف طائفته. فالمعارضة السورية لم تحاصر قرية سورية سنية، بل اختارت قرية شيعية، والنظام لم يستجب للمعارضات السنية بل للمعارضات العلوية، كما أن النظام العراقي لم يستجب للمظاهرات السنية بل للمظاهرات الشيعية. هذه الهرمية، التي تجعل قيمة روح سوري أو عراقي أعلى من سوري أو عراقي غيره لأنه من هذه الطائفة أو تلك، أو تجعل من صوته أهم وأقوى لأنه من هذه الطائفة أو تلك، هي المعنى العميق للطائفية. تستطيع الأنظمة في سورية والعراق التغني بالشعب السوري وبالشعب العراقي، لكنهما على أرض الواقع لم ولن يعاملا شعبيهما بشكل متساوٍ، بل سيكون التعامل بحسب الطوائف. فالطائفية التي كانت في البداية خياراً استراتيجياً لضبط الأمن، وحماية النظام، أو كسب الأصوات وضمان السيطرة على الدولة، تحولت مع تطاول العهد والحروب من كونها خياراً استراتيجياً إلى مصدر رمزي، أصبحت الأنظمة تشعر أن شرعيتها مهددة إذا انتفض عليها أبناء هذا المذهب من شعبها وليس أي قطاع من الشعب. في مثل هذه حال، يصبح المهمشون في هذه الأنظمة، ليس الفقراء مادياً، بل أبناء الطوائف التي لم يؤمن النظام بقاءه من خلال كسب رضاهم.