قبل أيام قرأت تقريرا صحافيا عما جاء في كتاب المؤلفة الهولندية كارين فان نيوفريك التي زارت مصر في الثمانينات لتكتشف كواليس شارع محمد علي. التقت الصحافية بالعالمة أم محمد وهي سيدة تقدم بها العمر وتعيش عزلة ووحدة في إحدى بنايات الشارع الشهير، بعد أن كانت الراقصة الأولى زمن الثلاثينات، وكان القاصي والداني يتمنى الاقتراب منها، أيام وهجها ونجوميتها. ابتعدت الأضواء عن العالمة السابقة، لأسباب تتعلق، كما ذكرت، بدخول راقصات جديدات حلبة المنافسة وتغير ملابسهن وميلهن للعري والإغراء، بعد أن كانت بدلة الرقص تغطي معظم الجسد في مهنة يقدم بها الفن على الغواية. لم يعجب أم محمد هذا الحال (لم يذكر المقال اسم شهرتها الأصلي) وقررت ترك الساحة للأخريات. فماذا فعلت في حياتها التالية التي جار بها الزمان وصار عليها تغطية نفقاتها. رفضت العمل كخادمة، اتجهت للتدين وأخذت تعلن عن مواقيت الصلاة كما كان يفعل أبوها في الزقازيق. لقد عملت تلك المرأة مؤذنة ! نشر الكتاب «A trade like any other» Female singers and dancers in Egybtعام 1998 ومكتوب فيه عنها «أن السيدة المسنة تحصل على بضعة نقود قليلة نظير أذانها وأنها محبوبة من الجميع الذين يحترمونها لتدينها» لم أفهم أكان المقصود بالأذان هنا مرحلة آخر الثمانينات حين التقتها كارين، أم في فترات أبكر من القرن العشرين؟ والأكثر إثارة للفضول والدهشة وكل علامات التعجب هو كيف رضي الشارع المصري بأن تؤذن فيه امرأة، بل وراقصة سابقة؟ أمر يدحض كل أعاجيب التفاسير التي تسرد علينا ليل نهار والمتعلقة بإثبات حجب المرأة عن التدخل في الحياة الدينية. تاريخيا، وافق الشارع المسلم على حضور المرأة، لكنه يرفضها اليوم. رفض يبدو مرتبطا بالعروبة أكثر من الإسلام. لأن المرأة في دول العالم الإسلامي وصلت للولاية (المحرمة) على مسلمات العرب. الإشكالية تبدو منحسرة بدقة في وطننا العربي الشهيد. إمامة آمنة ودود للمصلين قبل سنوات بنيويورك لم تمر مرورا عادياً. فتحت آلاف الجدالات والمقالات والصرخات والشتائم حول جواز ولاية المرأة وإمامتها وتوليها الإفتاء. وكنت وغيري نأمل أن تكون الحركة بداية لسيادة مبادئ عصرية تناسب جمهور النساء بفرنسا وألاسكا كما الدول العربية وماليزيا. يومها كان الاعتراض مرتكزاً على الغرائز التي قد تثيرها مسألة وجود امرأة تقف في الصف الأمامي، حتى ولو كانت في قمة الالتزام الشرعي بالهندام. جاء الاعتراض بمثابة اعتراف واضح يلخص وصول رجال مجتمعاتنا إلى حالة متقدمة من سيادة الغريزة. رغم ذلك، لا أحد يحكي عن غرائز المثليين الذين يصلون الجماعة في المساجد خلف رجال يركعون ويسجدون. ولا أحد يفضح بصوت مسموع شيوخ الدين الذين استغلوا جنسيا صبية ومراهقين كانوا ضمن مريديهم وحلقات ذكرهم. ماذا يضيرك لو سمعت الآذان بصوت أنثوي؟ ماذا ينقص منك لو أصبح الدين لنا جميعنا. أنت وأنا؟ بعد تعرفي على المؤذنة أم محمد ازداد يقيني بأن كل ثوراتنا لم تكن إلا نقمة وتمردا على الحضارة. لاحظوا عبارة: كان الجميع يحترمها لتدينها. ولو أنها خرجت اليوم (لتدينها) كي تؤذن في أي شارع عربي لاحتقرها الجميع ولعنوا الأب الذي أنجبها.