بعد تردد دام أياماً، كشف الإعلام الموالي لـ»حزب الله» عن رفضه الصريح للتحركات الشبابية المطالبة بحل أزمة النفايات. وفي بلد اعتاد فيه الفرقاء السياسيون تبني المواقف المتناقضة ولو على سبيل المزايدة والنكاية، اتخذ أنصار «14 آذار» الموقف السلبي ذاته. ومن غرائب قول الفريق المسمّى «استقلالياً» ان «حزب الله» يريد توظيف الحراك لمصلحته. كيف؟ بفرضه المزيد من السيطرة على الدولة ومؤسساتها. ثمة مشكلتان في هذا الكلام: الأولى ان الحزب يسيطر فعلاً على المفاصل الأساسية في الدولة سيطرة أمر واقع في كل المسائل التي تعنيه، أي كل ما يتصل بالأمن بالمعنيين العام والتفصيلي. الثانية، ان الحزب يمتلك ليس فقط «فائض قوة» بل «فائض سلطة» وضعته في وجه جمهوره الذي يزداد فقراً وحاجة الى الخدمات الاساسية. مشاهد البؤس في الضاحية، وأزمة النفايات في النبطية والحرمان الكبير في مناطق بعلبك الهرمل، تقول كلها ان الحزب الذي ركب على موجة التخويف من التكفيريين و»الدواعش»، فشل، مثل غيره، في حمل أعباء الملفات الاجتماعية خارج البيئة المباشرة لعناصره. وعندما احتكر الحزب المرجعية السياسية والأمنية في مناطقه وعند الطائفة الشيعية وهمّش الآخرين ابتداء من حركة «أمل»، وراكم ما سمّيناه «فائض سلطة»، بات مطالباً من قبل هذا الجمهور بتوفير الخدمات اليومية والأساسية. وهو ما لا قِبَل له به، بداهة. غني عن القول ان السلطة المقصودة هنا لا تقوم على الشرعية بالمعاني المتعارف عليها من تفويض شعبي يستند الى حرية الاختيار، بل بقدرة فئة متماسكة أيديولوجيا أو عصبياً على فرض إرادتها عبر الأدوات التي تحوزها على جمهور تظنه ملكاً خاصاً لها، فتبرز آلية التعاقد هنا باعتبارها مقايضة الحماية بالولاء، أي الشكل الأبسط والأعنف للسلطة. لا يحتمل هذا الشكل فكرة حقوق الرعايا أو «المواطنة» أو الخيار الحر. فينبذ كل مشكّك أو معترض الى خارج دائرة الحماية. ومن يتابع إعلام الحزب، يرى محاولات واضحة للتهرب من مسؤولية الانهيار الخدماتي الحالي والمرجّح للتعاظم. وتجري محاولات متعددة الأصوات لإلقاء تبعات المسؤولية على «القوى الحاكمة» وهذه تسمية مطاطة تبدأ من خصوم الحزب في 14 آذار وتيار «المستقبل» وتصل الى حلفائه في حركة «أمل». في حين أن الحزب يمسك بين يديه قدراً لا يستهان به من السلطة ويشكّل بهيمنته المباشرة وغير المباشرة على مؤسسات الدولة وبما يمثله سلاحه والعنف الكامن الذي يهدد به الآخرين، مشكلة شديدة الخطورة أمام انتظام عمل الدولة والمؤسسات والحياة اليومية. لكنها سلطة العنف وليست سلطة الشرعية والاختيار الحر. «فائض القوة» الذي كُتب عنه الكثير في الأعوام القليلة الماضية انقلب فائض سلطة عند الحزب الذي أفلح في تحويل قوته الى هيمنة عامة على الطائفة التي يمثلها وعلى أجزاء واسعة من الحيّز اللبناني العام، لكنه لم يستطع تطويرها في اتجاه شراكة حقيقية في مشروع وطني يشمل كل اللبنانيين باعتبارهم مواطنين. على الأقل مواطنين في «دولته» هو. فظل ينظر بعين الريبة الى كل من لا يجاريه في مغامراته داخل لبنان وخارجه من دون أن يتورع عن محاولة التدمير المعنوي والأخلاقي لمن يطالب بحد أدنى من حقوق يتشارك الحزب مع باقي أطياف التحالف الحاكم في حرمان المواطنين منها. وإذا أظهر التحرك المطالب بتسوية أزمة النفايات شيئاً، فقد أظهر التداخل الكبير والشديد التماسك بين أطراف الحكم والصعوبة البالغة في فصل مسألة حياتية ومحض خدماتية، عن الشأن السياسي وبنية النظام في لبنان.