في أسبوع واحد، تبيّن كم عمق الشرخ بين ثقافتين في لبنان. ثقافة الحياة في مواجهة مع ثقافة الموت. تسعى ثقافة الحياة إلى المحافظة على لبنان، فيما همّ المروّجين لثقافة الموت تحويل اللبنانيين وقودا في حروب تفرضها ايران على المنطقة. كان هناك الرئيس سعد الحريري الذي ألقى خطابا «متطرّفا» في الإنحياز إلى لبنان في الذكرى السنوية العاشرة لاغتيال والده. وكان خطاب السيّد حسن نصرالله الأمين العام لـ «حزب الله» الذي سعى إلى الرد على «تطرّف» سعد الحريري معتمدا «الاعتدال». كان معتدلا في كلّ شيء، خصوصا عندما وصف اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري ورفاقه قبل عشر سنوات بـ «الحادثة الأليمة». أراد «مواساة» آل الفقيد واللبنانيين من دون أن يجيب عن سؤال في غاية البساطة: لماذا يرفض الحزب تسليم المتهمين بارتكاب الجريمة التي تندرج في سياق ما خطّط له وما زال يخطّط له المحور الإقليمي الذي ينتمي إليه الحزب؟ في خطاب الذكرى العاشرة لتفجير موكب والده الذي أعاد لبنان إلى خريطة المنطقة والعالم، كان سعد الحريري متطرّفا بامتياز، خصوصا عندما أخذ على «حزب الله» «احتقاره» لجامعة الدول العربية و«اختزال العرب بنظام بشّار الأسد ومجموعة ميليشيات وتنظيمات وقبائل مسلّحة تعيش على الدعم الإيراني لتقوم مقام الدول في سوريا ولبنان والعراق واليمن»؟. ذهب في التطرّف إلى أبعد حدود عندما تساءل أين هي مصلحة لبنان بالتدخل في شؤون البحرين والإساءة إلى دولة لا تقابل لبنان واللبنانيين إلّا بالمحبّة والكلمة الطيّبة»؟ هذا السياسي والزعيم اللبناني الذي اسمه سعد الدين رفيق الحريري تجرّأ على القول: «بالاختصار المفيد، نقول إنّ الحرب على الإرهاب مسؤولية وطنية تقع على عاتق اللبنانيين جميعا. وخلاف ذلك، سيصيب الحريق لبنان، مهما بذلنا من جهود لإطفاء الحرائق الصغيرة. النموذج العراقي بتفريخ ميليشيات وتسليح عشائر وطوائف وأحزاب وأفراد، لا ينفع في لبنان. وتكليف طائفة أو حزب مهمّات عسكرية هو تكليف بتسليم لبنان إلى الفوضى المسلّحة والفرز الطائفي». إنّه كلام كبير صدر عن سعد الحريري في الذكرى العاشرة لاغتيال والده ورفاقه. هذا الربط بين لبنان وما يجري في الإقليم دليل على عمق في استيعاب المعادلة الشرق أوسطية التي تسعى ايران إلى فرضها انطلاقا من العراق والزلزال الذي تعرّض له قبل نحو اثنتي عشرة سنة. ما يبعث على الأمل أنّه لا يزال هناك زعيم عربي لبناني مسلم يتجرأ على تضمين خطابه مقطعا من نوع «أنا أتيت لأقول لكم: أنا لست معتدلا. أنا متطرّف للبنان، للدولة، للدستور. أنا متطرّف للمؤسسات، للشرعية، للجيش، لقوى الأمن الداخلي، أنا متطرّف للنموّ الاقتصادي، لفرص العمل، للحياة الكريمة، أنا متطرّف للعيش الواحد، للمناصفة، أنا متطرّف لبناء الدولة المدنية. نعم، للدولة المدنية، دولة القانون التي يُحكم على كلّ مواطنيها بالقانون، وفقط بالقانون، لأنّ اختلافات الفقه والدين والمذهب والتفسير، لا يجب أن تنسحب على الدولة ولا على الحياة العامة»... كيف كان ردّ حسن نصرالله على هذا «التطرّف»، الذي يعني، بين ما يعني، انحيازا لثقافة الحياة والتي كان مهرجان «البيال» في بيروت أفضل تعبير عنها؟ كان ردّ نصرالله بالربط المباشر بين لبنان وأزمات المنطقة مؤكّدا أن على لبنان التورط أكثر فأكثر في هذه الأزمات ذات الطابع المذهبي في معظمها. لم يكتف بمشاركة «حزب الله» في الحرب الظالمة التي يتعرّض لها الشعب السوري. دعا إلى «الذهاب معا إلى سورية، بل تعالوا نذهب إلى أي مكان نواجه فيه هذا التهديد (تهديد داعش)». بالنسبة إلى نصرالله، هناك تجاهل تام لمصلحة لبنان واللبنانيين. لبنان بالنسبة إليه مجرّد «ساحة» تستخدمها ايران. أما اللبنانيون، فهم وقود للسياسة الإيرانية التي لا همّ لها هذه الأيّام سوى عقد صفقة مع «الشيطان الأكبر» الأميركي. غلّف الأمين العام للحزب خطابه بـ «الاعتدال». لم يكن ذلك كافيا لتغطية الجريمة الكبرى التي ارتكبها في حقّ لبنان عندما قبل المشاركة في ذبح الشعب السوري. أين الفارق بين ما ارتكبه حزبه في سورية وما ترتكبه «داعش». هل اللغة الناعمة تغطي البراميل المتفجّرة التي تلقى على السوريين شرعيّة ما؟ في النهاية، شارك «حزب الله» في الحرب على الشعب السوري من منطلق مذهبي ولا شيء آخر غير ذلك، تنفيذا لطلب إيراني. إنّه يضحّي بشبان لبنانيين دعما لنظام أقلّوي يحتقر شعبا يبحث عن كرامته منذ ما يزيد على نصف قرن. ماذا فعلت «داعش»؟ سارت على خطى «حزب الله» عندما تجاهلت الحدود بين الدول ومفهوم السيادة الوطنية. فمثلما تجاوز الحزب الحدود بين سورية ولبنان، تجاوزت بدورها الحدود بين العراق وسورية من منطلق مذهبي أيضا. لعلّ أخطر ما في خطاب نصرالله القراءة الخاطئة للتطورات الإقليمية. لا يوجد عاقل يستطيع الفصل بين ما يدور على أرض لبنان والأزمات الإقليمية. لكنّ لدى الأمين العام لـ «حزب الله» هناك رؤية بعين واحدة في كلّ مكان. ففي العراق مثلا، لم يتطرّق حتّى إلى الدور الذي لعبته حكومة نوري المالكي في خلق بيئة حاضنة لإرهاب «داعش» عندما شاركت في إقصاء أهل السنّة عن مراكز القرار وتشجيع الميليشيات الحزبية على عمليات تطهير ذات طابع مذهبي في مناطق معيّنة. بين «تطرّف» سعد الحريري المنحاز إلى لبنان وإلى ثقافة الحياة، و«اعتدال» حسن نصرالله، الذي يعني إلقاء اللبنانيين في اتون أزمات المنطقة وحروبها لا يمكن للبناني العادي إلّا أن يكون «متطرّفا». لا مجال سوى لـ «التطرّف» خصوصا حين يتوجّب على اللبناني الاختيار بين مدرسة خرّجت خمسة وثلاثين ألف طالب واعادت الحياة إلى بيروت وسعت إلى توسيع خطة الإنماء والإعمار لتشمل كلّ لبنان وربطه بالعالم العربي...وبين مدرسة تنتمي إلى ثقافة الموت. مدرسة تعمل يومياً على عزل لبنان عن محيطه العربي وتدمير ما بقي من مؤسسات الدولة اللبنانية وتصدير لبنانيين للقتال في حروب مذهبية لا طائل منها. هل هذا الدور الجديد للبنان في مفهوم حسن نصرالله؟ هل يمكن التوفيق بين ثقافة الحياة وثقافة الموت؟ هذا أمر مستحيل. السؤال كيف يمكن حماية لبنان واللبنانيين في ظل استمرار هذه المواجهة وغياب أيّ قاسم مشترك بين الثقافتين؟ *نقلاً عن جريدة "الراي" الكويتية