هذه الأيام سيرتدي ملايين المسلمين من الجنسين اللون الأبيض عندما يأتون «من كل فج عميق» ملبين نداء الرحمن، وقاصدين بيت الله وصعيد المشاعر المقدسة، وعلى رغم أن اللون الأبيض ليس من شروط وأركان الحج، لكنه سنة مطهرة، إذ إن «سيد البياض» سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام كان يحبه ويحث الناس عليه في الإحرام وفي سائر الأوقات. اتفق المسلمون ولمئات السنين على هذا اللون ذي الرمزية الدائمة للنقاء، والتجرد، والمتأمل فيه يجد لون البدايات والنهايات معاً، فثوب العروس أبيض عند بداية حياة جديدة، ولون ملابس المولود في ساعته الأولى غالباً بيضاء، ولون الكفن أبيض، وربما يكون الحج نقطة حيث نهاية وبداية، ليس بالضرورة المعنى في ما يتعلق بالذنوب والتطهر والعودة كما خلقته أمه، لكنها أيضاً كرحلة عظيمة يفترض أن تكون مفعمة بالروحانية بداية لأفكار كثيرة تجول في العقل، ونهاية لأخرى. رمزية الأبيض أعطت الجمع الأكبر في العالم صورة عن التساوي، الجميع يرتدي تقريباً نفس الرداء، واللون، والجميع يفعل نفس الأركان والواجبات، فيخرج السؤال في ذهن الرائي: لماذا لا يستمر هذا البياض كسمة نقاء، ونقطة التقاء بعد الحج، ولماذا لا يكون من قبله. ألا يتفكر أهل البياض بأن اجتماعهم هذا على ركن لا يختلف عليه هو أحد الأدلة على أن كثيراً من خلافاتهم وتحزباتهم، ما هي إلا مجموعة ألوان أخرى لا مكان لها على البياض الذي يليق بهم كحاملي صفة المسلمين، وهو يليق بكل إنسان يحمل معاني سامية ومتصالحة حتى لو دان بدين آخر. في الأبيض الذي يرتديه الحجاج رمزية التجرد من كل شيء يتعلق بالدنيا وزخرفها، ألا نستطيع أو يستطيع البعض أن نجعله تجرداً دائماً من الصراعات والاحتقان، ونبذ الآخر، ألا يمكن أن يكون النقاء الذي يمثله عنواناً للعلاقات، ألا يمكن أن نتذكر في هذا الصعيد الطاهر الذي سيقف عليه الملايين بعد ثلاثة أيام أننا أولاً بشر ننتمي للجنس الإنساني العاقل والمميز بالعقل والتفكير، ثم ننتمي إلى دين واحد، مهما تفرعت مذاهبه تجتمع على أصول واحدة واضحة أحدها هذا المشهد المهيب المكلل بالبياض. لقد ورد ذكر اللون الأبيض أو البياض في القرآن العظيم 12 مرة، وهو علمياً أساس الألوان ومجمعها في آن، ولو أدرنا قرصاً مقسماً إلى الألوان الأساسية بالتساوي لظهر لدينا اللون الأبيض الذي ينتج عندما يعكس جسم ما جميع الأشعة الساقطة عليه من دون أن يمتص أياً منها، وهو أكثر الألوان سطوعاً، ويطفئ بريق الألوان الأخرى عند اختلاطه بها. ألا يمكن لبياض لباس الإحرام أن يطفئ كثيراً مما علق بالأمة على مر الزمان؟ ألا يمكننا أن نلتفت إلى هذه الرمزية ذات الدلالات المتعددة والمفاهيم المتقاربة، ولا نعتبرها مجرد بداهات لا تثير الانتباه كونها معاشة دائماً ومنذ أكثر من 14 قرناً. يجب أن يكون الحج مناسبة لجعل الأبيض يليق بنا كمسلمين. نقلا عن الحياة