2015-10-10 

عن الحوار الغائب أو المغيب

سالم الكتبي

تناول الدكتور مأمون فندي في مقال له نشر مؤخراً بصحيفة "الشرق الأوسط" اللندنية نقطة أراها مهمة لمن يسعى إلى انعاش الحالة الثقافية العربية واثراء ساحات الفكر بالآراء والتصورات والبدائل ووجهات النظر التي يحتاجها صناع السياسة ومخططي الاستراتيجيات في عالمنا العربي والإسلامي، وما أقصده هنا هو فكرة حوار المثقفين والكتاب مع بعضهم البعض بما يخلقه هذا الحوار من تقاطع للأفكار وتجاذبات تسهم بالأخير في بلوغ المرحلة الأفضل والأكثر عمقاً من التفكير، أو ما يمكن تسميته بالعصف الفكري عبر العالم الافتراضي. هناك أفكار وتصورات كثيرة أتابعها بالفعل في مقالات الرأي للكتاب العرب، ومعظمها غني فكرياً وقابل للتلاقح مع رؤى الآخرين وصولاً إلى حالة منشودة تسهم في تفريخ الأفكار الجيدة للمجتمعات ولو على سبيل المعادل الموضوعي لمفارخ الارهاب التي لا تكف عن الدفع بالجديد كل يوم. بالتأكيد نحن لا نكتب في فراغ ولا نكتب لمجرد الكتابة، ولسنا نمارس عملاً من دون هدف، أو هكذا اعتقد، ومن ثم يمثل الحوار بين الكتاب وما يتطلبه من تشغيل لآلات الاستقبال بالدرجة ذاتها التي تنشط بها آلات البث والارسال، أمراً مهماً لمن يريد بالفعل تحريك المياه الراكدة في القضايا العربية والاقليمية التي تزداد تأزماَ يوما بعد آخر. ولا أبالغ إذا قلت أنني أحيانا أجد في تعليقات القراء على ما يسطره قلمي وأقلام غيري من الكتاب، أفكاراً ورؤى وتحليلات ومداخل رائعة للأحداث السياسية والقضايا الاستراتيجية، ولذا اعتقد أن بناء حالة من التواصل الشبكي الافتراضي بين الكتاب وبعضهم البعض من ناحية، وبينهم وبين القراء أو الجمهور من ناحية ثانية، قد يمثل خطوة ضرورة لازمة للاستفادة من هذا الكم الهائل من الافكار التي تطرح عبر مئات المنابر الاعلامية وتمضي في مسارات متوازية لا متقاطعة. من بين أكثر ما يلفت انتباهي أن القراء ينخرطون في فكرة الحوار أكثر من الكتاب، وهذا أمر ايجابي بالتأكيد ولا غبار عليه، فمتابعة تعليقات القراء على مقالات الرأي تتحول أحيانا إلى متعة تفوق قراءة المقال ذاته في ظل وجود هذا الطيف الواسع من الآراء والتوجهات والقناعات الأيديولوجية والسياسية والدينية والاعلامية وغيرها، ومن ثم تصبح التعليقات بمنزلة "مرآة" للمجتمع المستقبل للرسالة الاعلامية، أو قل هي نموذج استطلاع رأي عشوائي لشريحة عريضة من القراء ربما يقودك تحليل مضمونها إلى بناء تصورات مبدئية جيدة حول اتجاهات شريحة معينة من الجمهور حيال بعض القضايا والموضوعات. أدرك بطبيعة الحال أن مسألة التعرف إلى اتجاهات الجمهور تخضع لمعايير علمية وضوابط منهجية ضرورية، لاسيما أن مواقع الانترنت الشهيرة باتت تمتلك قاعدة شبه ثابتة من الجمهور تتشكل تدريجياً وفقا لنمط ملكيتها وطبيعة الوسيلة والتقنيات المستخدمة والسياسات التحريرية ومدى توافق هذه السياسات مع القراء.... وهكذا، فضلاً عن وجود متغير حيوي ـ برأيي ـ هو وجود كم غير معروف أو محدد بدقة مما يعرف بغرف العمليات الالكترونية التابعة لجماعات وتيارات ودول بعينها تتحكم في مسارات النقاش وتوجه الحوارات في أحيان كثيرة لا تخفي على عين خبيرة بأمور العالم الافتراضي. ما يهمني في هذه القضية هو فكرة الحوار المتقاطع بديلاً أو مرادفاً أو داعماً للكتابات في مسارات متوازية، وهنا ربما أجد أن المسألة ربما تعترضها بعض العقبات الثقافية، منها على سبيل المثال، الحساسيات العربية التي يصعب إنكارها بين المثقفين والكتاب، وهي حساسية نلحظها كثيراً أثناء النقاشات التي تدور خلال المؤتمرات والندوات وحتى البرامج الحوارية المتلفزة، فالكثيرون لا يركزون على بلوغ منتهى الفكرة أو صيغتها الأفضل بقدر مايركزون على الانتصار للرأي الشخصي، ويرون في ترجيح رأي الآخر هزيمة شخصية لهم، ومن ثم لا يعترفون سوى بانهاء الحوار بالضربة القاضية الفكرية أو بأي طريقة كانت حتى لو عنيفة عدا أن ينتهي الحوار بالاعتراف برأي لم يصدر على ألسنتهم!! إشكاليات الحوار هذه برمتها مرتبطة بالتأكيد بخلفيات ثقافية بحاجة إلى تفكيك مجتمعي تربوي تدريجي، فالحوار وقبول الرأي الآخر والاعتراف بحق النقد، هي أمور ثقافية بالاساس ولها قواعدها التي تترسخ في الأذهان عبر سنوات وسنوات، ولا يمكن أن تأتي فجأة، فهي تمثل نسقاً ثقافياً وفكرياُ وتربوياً يمثل بدوره جزء من حالة مجتمعية أوسع تقوم على الحوار والنقاش، وهي ممارسات قائمة بالفعل في مجتمعات عربية تقليدية عدة، كما يحدث في مجالسنا العربية الأصيلة في دول الخليج العربية. في الغرب، على سبيل المثال، نجد بعض الأفكار والتصورات تنشر في دوريات علمية مرموقة وتدور حولها نقاشات مستفيضة وتصبح مجالاُ لكتابات معمقة من الباحثين والصحفيين وقادة الرأي في المجتمعات، وتتحول نتائج هذه النقاشات إلى مصدر الهام ينير طريق الساسة ومخططي الاستراتيجيات، ولكن هذه الظاهرة نادرة في عالمنا العربي ربما لضعف ثقافة الحوار، أو ربما لأن الكثيرين يمارسون الكتابة للكتابة على غرار مبدأ "الفن للفن" باعتبار أن الكتابة في عالمنا العربي ليست وسيلة ايجابةي جادة للتعبير عن الأفكار والمشاركة في تطور المجتمعات فكريا وثقافيا وتنمويا كما هو متعارف عليه، بل تتحول أحياناً إلى فعل مطلوب لذاته، أو لتحقيق مآرب أخرى لا علاقة لها بالهدف المفترض لهذه المساحات المخصصة لاثراء الفكر وتوسيع مساحات الوعي الجمعي بالقضايا والهموم المشتركة للدول والشعوب والحضارات والثقافات الانسانية. الاختلاف في الرأي من الأمور البديهية في الحياة، بل هي أحد الثوابت التي لا يمكن النقاش حولها، لكن الحوار بين الكتاب يمكن أن يطرح مقاربات تسهم بدورها في ايجاد حلول للأزمات، فعلي سبيل المثال، هناك عشرات الآلاف من مقالات الرأي نشرت ـ ولا تزال ـ حول قضايا حيوية مثل الارهاب والتعليم والبطالة والفساد والأمية والجهل وغيرها من الاوبئة التي تجتاح عالمنا العربي والاسلامي وتعشش في كثير من مناطقه ومدنه وقراه، ولكن لم ترسم بعد استراتيجية واضحة المعالم يمكن الاستفادة منه والبناء عليها في مكافحة هذه الظواهر البغيضة، التي تلعب دوراً رئيسياً في توليد المزيد من التطرف والارهاب وتسهم بدور فاعل في تفريخ المزيد من العقول المريضة القابلة للاستقطاب والتجنيد في صفوف تنظيمات القتل والذبح وسفك الدماء. الخلاصة أن الحوار الغائب أو المغيب على الساحة الفكرية والاعلامية والاكاديمية العربية ربما يمثل أحد دروب الافلات من قبضة جماعات التخلف والانحطاط الحضاري التي تكاد تغرق المنطقة بأكملها في مستنقع الفوضى والخراب.

التعليقات
أضف تعليقك
الأكثر قراءة
مواضيع مشابهه