1. ليس فى استطاعة الولايات المتحدة الأمريكية، ولا فى استطاعة الاتحاد الأوروبى فرض منظومة إقليمية جديدة للأمن فى بلاد العرب والشرق الأوسط تحول دون تواصل انهيار الدول الوطنية وتواجه عصابات الإرهاب والعنف وتدعم شعوب المنطقة فى تحقيق تطلعاتها الديمقراطية والتنموية. 2. بعيدا عن نظريات المؤامرة وأحاديث الصفقات السرية، لم تعد أدوات الولايات المتحدة فى منطقتنا ــ وهى الوجود العسكرى على الأرض والعلاقات العسكرية والاستراتيجية التى بمقتضاها تسلح المصانع الأمريكية بعض الجيوش العربية والجيوش الشرق أوسطية (التركى والإسرائيلى) والعلاقات الاقتصادية والتجارية وبعض حزم المساعدات التنموية والتكنولوجية والنفوذ الدبلوماسى للقوة العظمى ودورها المهم فى الأمم المتحدة ــ قادرة على دفع الحكومات العربية والشرق أوسطية لتبنى الاختيارات الأمريكية بشأن حاضر ومستقبل المنطقة. تستطيع الولايات المتحدة أن توظف أدواتها لحماية إمدادات النفط ولضمان أمن إسرائيل، وأن تعتمد على وجودها العسكرى على الأرض وإمكانياتها العسكرية بشكل عام للقيام بعمليات عسكرية ضد داعش وغيرها من عصابات الإرهاب، وأن تجبر إيران من خلال حزم العقوبات المتتالية على التفاوض بشأن الملف النووى. غير أن واشنطن لم يعد يستمع إليها كثيرا فى الخليج حين يتعلق الأمر بالملفات العراقية والسورية واليمنية، والتى يرى الخليج أن الدور الأمريكى رتب فيما خصها تفتيت الدولة الوطنية فى العراق وأهدى مؤسساتها وأجهزتها إلى إيران والطائفية الشيعية المدعومة منها، وفى سوريا إطالة أمد الصراعات المسلحة والحروب الأهلية دون حسم عسكرى وبتنام للنفوذ التركى، وفى اليمن انهيار الدولة وحصول إيران على مواطئ قدم إضافية فى بلاد العرب. ولم يعد يستمع إلى واشنطن أيضا فى مصر لابشأن الأوضاع الداخلية التى تفتقد الأدوات الأمريكية المصداقية الأخلاقية والقدرة الفعلية على التأثير فى مجرياتها حين ترتبط بالديمقراطية وبالحفاظ على الدولة الوطنية، ولابشأن الأوضاع الإقليمية خاصة فى جوارنا المباشر فى ليبيا التى تتجاهل الدبلوماسية الأمريكية الخطر الذى تمثله حروب الكل ضد الكل وجنون الإرهاب على مصر وأمنها القومى. وعلى المستويين الداخلى والخارجى، ثمة مصلحة مصرية وعربية حقيقية فى عدم الاستماع إلى واشنطن. وكذلك لم يعد يستمع إلى القوة العظمى فى الكثير من بلاد العرب الأخرى، باختصار لأن أطراف الحكم / السلطة أضحت حكومية وغير حكومية وتتسم أحيانا بتنوع طائفى ومذهبى وعرقى وسياسى وبعلاقات مع قوى إقليمية ودولية وبمصادر تسليح وتمويل متعددة ــ كما فى العراق وسوريا واليمن وليبيا، وهو ما يحول دون انفراد الولايات المتحدة بالنفوذ والتأثير. وفى منطقتنا، تقليديا، إسرائيل التى تستتبع فى سياساتها الاستعمارية والاستيطانية الدور الأمريكى لمصلحتها ولاتخشى تفريغ جميع مبادرات الحل التفاوضى للقضية الفلسطينية من المضمون والجدية، وتركيا التى يتنامى نفوذها الإقليمى مع تصاعد قوتها الاقتصادية، وإيران الدولة الأكثر استفادة من تحولات السنوات الماضية. ليست الولايات المتحدة الأمريكية اليوم القوة العظمى القادرة على فرض منظومة إقليمية للأمن وصياغة خرائط جديدة لبلاد العرب والشرق الأوسط. 3. أما الاتحاد الأوروبى، بدوله الكبرى ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، وبدوله المتوسطية المؤثرة تقليديا فى شئون العرب والشرق الأوسط إيطاليا وإسبانيا واليونان، فشئونه الاقتصادية وتحديات إدارة علاقاته مع الاتحاد الروسى والحفاظ على ترتيبات الأمن الإقليمى فى أوروبا تستنزف قدراته فى مجال السياسة الدولية، وستواصل استنزافها خلال السنوات القادمة. من ينظر اليوم إلى أوروبا، سيجد قضايا العرب والشرق الأوسط ــ وباستثناء بعض النشاط الدبلوماسى فى الأمم المتحدة وغيرها من المحافل الدولية والإقليمية والسائر عادة فى مدارات الدور الأمريكى، والاهتمام المستمر بملفات الهجرة غير الشرعية من عالمنا إلى الشواطئ الأوروبية وبالأوضاع الإنسانية فى فلسطين ــ غير حاضرة على جدول الأولويات. فالأولوية هى للأوضاع الاقتصادية والمالية المتعثرة فى اليونان وأيضا فى البرتغال وإسبانيا وإيطاليا ودول أخرى، والأولوية هى للإبقاء على اليونان داخل المنظومة الأوروبية خوفا من تبعيتها لروسيا حال انسلاخها من الوحدة النقدية الأوروبية، والأولوية هى لمواجهة روسيا فى الشأن الأوكرانى وتوظيف أداة العقوبات الاقتصادية والتجارية للحيلولة دون تفتيت الدولة الوطنية الجديدة ومنع المزيد من النفوذ الأمنى الروسى فى القارة الأوروبية ومساعدة دول شرق ووسط أوروبا على التصدى للتوسع الروسى، والأولوية هى للتفكير فى الترتيبات الأمنية الأوروبية وإعادة النظر فى ملف إمدادات الطاقة من روسيا وملفات الأدوات العسكرية والدبلوماسية المشتركة بين الأوروبيين وحدود استقلالية قرارهم عن الولايات المتحدة وتطوير العلاقات مع الصين. 4. ومع غياب قدرة الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبى على فرض منظومة إقليمية جديدة للأمن فى بلاد العرب والشرق الأوسط، وبالقطع عدم امتلاك روسيا أو الصين لأدوات كافية للاضطلاع بهذا الدور، أصبحت مهمة صياغة وتطبيق منظومة إقليمية للأمن ملقاة على عاتق القوى الرئيسية فى منطقتنا، وإما سيضطلع بها العرب ويتوافقون بشأنها ويفرضونها بأدوات عسكرية واقتصادية واجتماعية وتنموية متنوعة أو سيضطلع بها الإيرانيون والأتراك وإسرائيل وعلى حساب المصالح العربية ودون الحدود الدنيا من التوافق معهم. الاختيار لنا! *نقلا عن "الشروق" المصرية