هدى الحسيني
عام 2013، ألغى الرئيس الأميركي باراك أوباما قمة مقررة كانت ستجمعه مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وذلك اعتراضًا على منح موسكو حق اللجوء إلى جون سنودن الموظف في مجلس الأمن القومي، وكذلك على استردادها شبه جزيرة القرم من أوكرانيا، حيث قاعدة أسطول البحر الأسود.
ومنذ ذاك الوقت، وحتى لقائهما في شهر سبتمبر (أيلول) الماضي في الأمم المتحدة، أثناء انعقاد الدورة العادية للجمعية العامة، لم يجر بينهما إلا تبادل كلمات، ومخابرة هاتفية واحدة.
وطوال تلك الفترة ظل جون كيري وزير الخارجية على تواصل دائم مع نده الروسي سيرغي لافروف، وكان ومساعدوه يقدرون علنًا الدور الروسي البناء في مفاوضات النووي مع إيران.
ومنذ ما قبل عام 2013 والحديث في الأوساط الغربية والعربية يدور حول تغيير الحدود التي نصت عليها «اتفاقية سايكس - بيكو». وفي مقال نشره هنري كيسنجر يوم 16 من الشهر الماضي قال: «هناك أربع دول في الشرق الأوسط عمتها الفوضى وأفقدتها سيادتها وهي ليبيا والعراق وسوريا واليمن».
ويوم الثلاثاء، 27 من الشهر ذاته، قال برنار باجوليه مدير الاستخبارات الفرنسية «إن النزاع في سوريا والعراق ينذر بتغيير في خريطة المنطقة، وبالتالي فإن الشرق الأوسط الحالي انتهى إلى غير رجعة» فالعراق وسوريا لن يستعيدا أبدًا حدودهما. وقال إن المنطقة سوف تستقر مجددًا في المستقبل، لكن ستكون مختلفة عن تلك التي رسمت بعد الحرب العالمية الثانية.
ومع التحرك الأميركي - الروسي الأخير لجمع الأضداد والأعداء بدأ رسم الخريطة الجديدة. ويرى مراقبون أن أميركا بموافقتها على الدور الروسي في سوريا، أيدت قيام دولة علوية.
لم يرشح الكثير عن لقاء بوتين - أوباما في نيويورك، إنما انصبت الأنظار على كيري ولافروف عندما وقفا معًا ليعلنا عن رؤيتهما المشتركة لحسم الحرب في سوريا عبر «العملية السياسية»، وفُسر هذا على أنه إعطاء أميركا الشرعية للدور الروسي.
الذي سرّع من هذا التطور كان التدفق المفاجئ للأعداد الكبيرة من اللاجئين السوريين السنة إلى القلب الأوروبي، وقد بدأ مع أوائل شهر سبتمبر الماضي. ورغم الترحيب الألماني في البداية، الذي بدا وكأنه تشجيع لتفريغ سوريا بالذات، بدأت أصوات المسؤولين الأوروبيين تهدد بالخطر المحدق بترابط المجموعة الأوروبية، هذه الأصوات وصلت مع ضغوط أوروبية إلى واشنطن بأن أوروبا لا تستطيع أن تستوعب مليوني لاجئ غير مسيحي يصعب اندماجهم بثقافتها وتقاليدها. فكانت تصريحات كيري المتعلقة بتخفيف العبء الإنساني وقبول الرئيس أوباما الضغط الأوروبي (البريطاني - الألماني) بإسقاط شرطه إبعاد الرئيس السوري ومؤيديه عن الحكم بالقوة، ولم يؤيد إقامة مناطق آمنة.
في كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة قال أوباما إن الأسد يجب أن يرحل، بعدها عقد لقاء وجهًا لوجه مع بوتين، تبعه الاجتماع التنسيقي بين كيري ولافروف.
ثم بدأت الضربات العسكرية الروسية، وظهر وكأن موسكو تسعى للاستيلاء، نيابة عن الأسد، على أكبر قدر ممكن من الأراضي، خلال ما يسمى بالتحضير للفترة الانتقالية، من أجل فرض واقع إقامة الدولة العلوية التي كثر الحديث عنها منذ أن انسحبت القوات النظامية السورية من المناطق الكردية، ومن الرقة، ومن المناطق التي يحتاج الدفاع عنها لخطوط إمدادات طويلة، ولقوات غير متوفرة. وكان المهم الحفاظ على دمشق.
«التفسير العقلاني» لتدخل روسيا حسب ما قال بوتين في مقابلة تلفزيونية مع شارلي روز: «بعد غزو العراق، دُمرت السلطة هناك، أعدم صدام حسين، ثم جاء داعش (...) وما الذي حصل في ليبيا، تفكك كامل، لا وجود لدولة على الإطلاق، نحن لا نحب أن يتكرر هذا في سوريا».
لم يحسم بوتين أن التدخل السوري هو لبقاء بشار الأسد. بالطبع مالت كفة الميزان العسكري لصالح قوات الأسد في «سوريا المفيدة». وهذا ما دفعه إلى التصريح بأن أي حل سياسي في سوريا لن يكون إلا بعد إلحاق الهزيمة بالإرهاب. لا يعرف الأسد أن الإرهاب مثل تجارة المخدرات. لا دولة قادرة على إلحاق هزيمة حاسمة به. هو ربما يريد أن يرفع سقفه أمام أبناء طائفته. ذلك أن المنطق وراء قبول الرئيس أوباما المتردد بالتدخل الروسي المباشر، بسيط جدًا، ويتعلق بالانقسام السني - العلوي. العلويون طائفة دينية أقلية في وقت يشكل فيه السنة ما يقرب من 70 في المائة من السكان. في هذه الحالة ترى واشنطن بالعلويين ما حل بالإيزيديين في العراق. ولا تريد تكرار التجربة. وبما أن أكثر من 4 سنوات.
من الصراع أثبتت أن أي طرف غير قادر على كسر الآخر، كان من الضروري البحث عن حل قبل أن تتفاقم مشاكل اللاجئين السنة في أوروبا. لذلك يسرع كيري بدعوة كل الأطراف إلى المشاركة في طاولة حوار تسمح للسوريين من علويين وسنة بأن يستقر كل منهما في أراضيه. في مقاله يقول كيسنجر: «بمفهوم عميق، فإن الأهداف الروسية لا تتطلب بقاء الأسد إلى أجل غير مسمى، إن تدخلها تحد جيو - سياسي وليس آيديولوجيًا. وينبغي التعامل معه على هذا الأساس».
أما عن إيران فيقول: «إنها تدعم نظام الأسد باعتباره الركيزة الأساسية للهيمنة الإيرانية التاريخية التي تمتد من طهران إلى البحر الأبيض المتوسط، لذلك تصر دول الخليج على الإطاحة بالأسد لإحباط المخططات الإيرانية الشيعية».
منذ بدء تسليح المعارضة أميركيًا كان التوجه لمقاتلة «داعش». وفي 9 من الشهر الماضي كشف مسؤولون في واشنطن عن خطة لتجميع القبائل السنية في التحالف العربي السوري ليقاتلوا إلى جانب القوات الكردية ضد «داعش». لم يشيروا إلى مقاتلة الأسد. فكان التفسير بأن الخطة وضعت بعد تسوية مع موسكو من أجل إنشاء حزب سياسي سني يحكم الدولة الجديدة على أمل أن تكون حلب عاصمتها.
من جهتهم، رغم المعاناة الحياتية التي يعيشها الأكراد، فإنهم يتنفسون الصعداء، إذ لم يعودوا محكومين من دمشق أو بغداد، وأيضًا لأن الولايات المتحدة لم تعد تثق بأحد في المنطقة إلا بالأكراد. رغم انقساماتهم فإن الهدف الذي يجمعهم هو دولة كردستان التي نصت عليها «اتفاقية سيفر» عام 1920، وينوون تحقيقها في هذا القرن. لأنه مع الثقة والدعم الأميركيين، فقد تكون مجرد مسألة وقت أن تصبح دولة كردستان مستقلة وذات سيادة.
إذا وصلنا إلى العراق فمن غير المقنع أن تكون العلاقات الوثيقة بين الحكومة الشيعية الطابع، ما بعد صدام، وإيران تصب في مصلحة الولايات المتحدة. لذلك، رغم صعقة المفاجأة، لم تهرع أميركا إلى وضع خطة لاسترداد الموصل من «داعش» ولا أيضا الرقة.
ملايين السنة العراقيين يعيشون الآن في مناطقهم بعيدين عن سلطة الحكومة الشيعية في بغداد. ودولة يحكمون في ظلها أنفسهم، تشدهم بعيدًا عن «داعش»، دولة سنية جديدة في العراق تقلص النفوذ الإيراني السياسي والاقتصادي المعشش في أوصال الحكومة. يقول لي مسؤول غربي، إن إدارة أوباما تقود الآن مع الكرملين عملية «تشريح» سوريا والعراق إلى عدة دول قد تصل إلى ست دول لـ«تجزئة الصراع» وتقليص الانضمام إلى «داعش». وإذا شعر أبناء هذه «الدول» بأنهم أصحابها فلماذا يتمسكون بآيديولوجية إرهاب «داعش». فلينكبوا على الاستفادة من المشاريع التي ستثريهم.
كيف؟ ومن سيقيم المشاريع؟ يقول: إن الصين متعجلة لعودة الاستقرار إلى المنطقة لتسهيل مشاريع طريق الحرير التي بدأتها، وقد تكون ساهمت في الصفقة الأميركية - الروسية الأخيرة. ويشير إلى دعوة وزير الخارجية الصيني في 30 سبتمبر إلى حل سياسي للحرب السورية. ويضيف: إن الصينيين لا يتحدثون صدفة!
ويقول محدثي: الخطة وضعت. ومثل هذه الخطة التي حصلت على تأييد أميركي - روسي - صيني من المستبعد أن يعترض عليها أحد، إذا ما طرحت على مجلس الأمن. إنه مشروع تكوين دول جديدة.تجربة يوغوسلافيا تدخل فيها الغرب. الأطراف هناك أرادوا الانفصال عن بعضهم البعض منذ الأيام الأولى. صربيا تعنتت. قصفها الأطلسي ولم تستطع روسيا عندما قامت بإنزال جوي إنقاذ تلك الوحدة. تشيكوسلوفاكيا قررت واختارت «طلاقًا حضاريًا».
تلك دول من إثنيات مختلفة. في سوريا والعراق هناك الإثنيات والمذاهب المختلفة. لتعش كل فئة حياتها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية التي تناسبها. وربما لهذا قال رئيس الاستخبارات الفرنسية إن المنطقة سوف تستقر مجددًا في المستقبل.
*نقلاً عن "الشرق الأوسط"