الحياة- إذا كانت الأحكام القضائية الكويتية أمس، تعكس إصراراً خليجياً على حماية دول مجلس التعاون ومجتمعاتها من الاختراقات الإيرانية، فالإصرار الإيراني على اتهام بعض دول المجلس، والسعودية خصوصاً، بما ترتكبه طهران سراً وعلناً، قد يكون دليلاً على أن الأزمة بين المملكة وإيران لن تكون عابرة. والمشكلة مع جمهورية المرشد علي خامنئي ما زالت كما هي، لم تتبدّل منذ 1979. فالعلاقات بين الدول تقتضي بداهةً قنوات ديبلوماسية، تبدو غير موحّدة في طهران، أو غير منسجمة في أحيان كثيرة مع رغبات «الحرس الثوري» والأصوليين المتشدّدين و «الباسيج»، وغيرهم من أجنحة النظام التي تتوهّم هيمنة كاملة على منطقة الخليج، بذريعة حفظ أمنها «بلا أجانب».
حادث الاعتداء على السفارة السعودية في طهران، وقنصلية المملكة في مشهد، أثبت ما كان يخشاه أهل الخليج منذ ما قبل توقيع طهران الاتفاق «النووي» مع الدول الست: إيران تحت الحصار والعقوبات، تهدّد وتتوعّد وترشق الجميع بالاتهامات، وتتدخَّل في دول عربية تعاني صراعات داخلية فتؤججها... إيران ماذا عساها تفعل بعد رفع العقوبات الدولية والغربية عنها؟ لن تبادر طهران حتماً إلى الاعتراف بأنها جنّدت إيرانياً لتنفيذ مخطط يمسّ أمن الكويت مثلما تنصّلت من أي رابط بين التحريض الرسمي الإيراني والاعتداء على السفارة السعودية. والغريب مرة أخرى أن النظام الإيراني الذي كان ولا يزال يكرر رغبته في التطبيع مع السعودية وفتح حوار، يحرّض الحوثيين في اليمن على مواصلة قتال الشرعية ومَنْ يدعمها. ويمارس الأسلوب ذاته بعد حادث السفارة ومبادرة الرياض إلى قطع العلاقات مع طهران: يعاقب مسؤولاً أمنياً إيرانياً، لكنه يوزّع الاتهامات لتبدو حكومته «معتدلة» والآخرون ساعين إلى التوتر، في منطقة باتت على بركان «داعش» والتطرُّف.
وبعد ما كتبه وزير الخارجية محمد جواد ظريف في صحيفة «نيويورك تايمز»، ابتكر وزير الداخلية الإيراني عبد الرضا رحماني فضلي تهمة جديدة، وجّه أصابعها إلى «أيدٍ خفية سعودية وأجنبية» ضالعة بالاعتداء على سفارة المملكة في طهران. لكن فضلي الذي انتهز فرصة وجوده في دمشق، ليبرّئ حكومته من الحادث، معتبراً إياه «عملاً عفوياً لبعض المواطنين»، استدرك، متّهماً السعودية بأنها وراء مهاجمة سفارات إيران في لبنان واليمن وباكستان. كيف تذهب طهران الى حوار وتطبيع فيما لا تزال تتعامل مع دول كبرى في المنطقة بمنطق الأحزاب والفصائل والعقائد؟... يُدرك الجميع أن إرهاب «داعش» وسواه، يقدّم خدمة كبرى للطروحات الإيرانية التي تنتهي عند نقطة وحيدة تسعى إلى تكريسها لدى الغرب: كل إرهاب «سنّي»، مثل مموّليه، ولا قوة غير إيران التي تستتبع الشيعة العرب أو تدّعي وصاية عليهم لتعزيز حقوقهم، قادرة على احتواء هذا «الإرهاب»، من الخليج إلى العراق وسورية ولبنان.
الإيراني يقاتل بدماء السوريين في سورية، ويقاتل «داعش» كما يقول، بدماء العراقيين، ويدافع عن «المظلومين» في اليمن بدماء اليمنيين، بعدما دافع طويلاً عن المقاومة والممانعة بدماء اللبنانيين شيعةً وسنّة ومسيحيين. يلعن الفتنة المذهبية، ويضخّ لها دماءً مدفوعة «الكلفة» من نفط العراق. لا غرابة، بفضل «حكمة» باراك أوباما، إذا توهّم المرشد أنه قادر على ملء الفراغ في النظام العالمي: الأميركي خائف على رأسه، الإيراني يضحّي برؤوس عرب، الروس يوسّعون مظلة الحماية. المؤسف في تجارب التطبيع مع إيران، ان حقبة رفسنجاني- خاتمي مُحِيَت بجرّة من قلم خامنئي. ما بعد رفع العقوبات «ازدهار» يَعِد به الرئيس حسن روحاني شعبه، ولكن لا أحد في القيادة الإيرانية يُطمْئِن الجيران الى فتح صفحة من التعقُّل... مزيد من الصواريخ الباليستية بديلاً من البرنامج النووي، و «الرفيق» الكبير فلاديمير بوتين يجرّب هل يُلحِق الأرياف السورية بشبه جزيرة القرم!... لئلا يفاجئه الإرهابيون في الساحة الحمراء.
أبعد بكثير من وصف حال مأسوية، درس إمكانات تمايز الشيعة العرب عن الوصاية الإيرانية المفروضة تحت أجنحة «الممانعة»، فهل يرفعون صوتهم ضد الاختراقات التي تفكِّك المجتمعات في المنطقة بسلاح الدفاع عن «المظلومين»؟ هل يكفي اتهامنا بطعن إيران من الخلف، لنستسلم أمام انهياراتنا الكبرى: بين إيران تنحرنا غيرتها على حقوقنا، وإسرائيل الشامتة أمام فصول القتل المتوالية... والغرب الذي يشكو أنه ملّ الدموع ومشاهد البؤس الوافدة إلى بيته؟ لا أحد في الخليج يصدّق أن «الحرس الثوري» وصواريخه، مجرّد عرض عضلات، قبل توزيع ورود المصالحة، من شط العرب إلى باب المندب.