العرب - في يوليو 2010 نشرت مقالا بعنوان “النخبة السعودية.. رهان خليجي على التغيير” قامت فكرته الأساسية على قراءة لدور تلك النخبة المتجلّي في سعيها إلى تفعيل الواقع بما تقدّمه من أطروحات ورؤى تحدث جدلا على مختلف الصعد، وخاصة الاجتماعية والإعلامية، وأنها رغم سيرها البطيء نحو أهدافها ستحدث تغييرا واسعا يتعدّى المجال الجغرافي للمملكة ليشمل بعض الدول الخليجية الأخرى، وقد لا يكون دورها بيّنا على المستوى العربي لأنه لا يزال محدودا، لكنه ظاهر على الصعيد الخليجي، حيث يُوجد كثير من عناصرها في بعض الدول الخليجية والأخرى التي نأت بنفسها بعيدا تكتسحها رياح أفكار النخبة السعودية، وذلك يرجع إلى الثقل السعودي في المنطقة
لقد استندت في ذلك الوقت إلى أمرين، الأول: مطالعتي لما يمكن اعتباره مُنتجا سياسيا على مستوى الكتابات. والثاني: إلى نشاط عدد من عناصر النخبة، الإنتلجنسيا، السعودية، لكن موقفي في ذلك الوقت استمد شرعيته من الزاد المعرفي المنشور ولم يرق إلى مستوى النقاش المباشر مع عناصر النخبة السعودية، وأتصور أن ذلك حالة من الشراكة في التقييم بيني وبين الكثير من المهتمين العرب بالمنتج السياسي والثقافي السعودي. اليوم توسَّعت دائرة اهتمامي، وزادت سعة إدراكي ولم أعد استقي معلوماتي من الجوانب النظرية للنخبة السعودية، بكل تنوعاتها وتناقضاتها، أو من خلال متابعة نشاطها المتواصل والمكثف، وهي بالطبع ليست فريقا واحدا متجانسا، إنما دخلت في نقاش مع عدد من المثقفين السعوديين، خاصة المنشغلين بقضايا الإرهاب، أو الذين يعملون من أجل ربط السعودية بعالمها العربي انطلاقا من الدور السياسي للمملكة في الوقت الراهن، وقد مكًّنني ذلك من تصحيح الكثير من الأحكام المسبقة، وساعدني على تغيير الصورة النمطية السائدة.
كانت البداية مع مشاركتي في ملتقى حاتم الطائي الأول بحائل في أبريل 2012، وقتها تعرَّفت على الكثير من المثقفين السعوديين، ومع أن الملتقى كان أدبيا، إلا أن الجلسات الخاصة والأحاديث الجانبية تطرقت إلى عدد من القضايا العربية، ومنها القضية السورية رغم أنها كانت في البداية، ووصل النقاش إلى درجة الاختلاف البيّن، لكن كان واضحا اهتمام السعوديين بالقضايا العربية، على عكس الاعتقاد السائد لدى الكثير من العرب بتراجع الاهتمام بالقضايا العربية نظرا للغرق في القضايا المحلية والإقليمية. وخلال السنوات الثلاث الماضية ازددت تعمّقا في فهم ما تسعى إليه النخبة السعودية من خلال مناقشات مستفيضة وصريحة عبر المشترك عربيا والخاص محليا وخليجبا، وربما تعد الشهور الأخيرة من العام الماضي 2015، أي من أكتوبر إلى ديسمبر، أكثر الفترات خصوبة وثراء في علاقتي الفكرية مع بعض عناصر النخبة السعودية، خاصة أنها تميّزت بنوع من الوضوح، وتّم التخلص فيها من تأثيرات التقسيمات العربية التي هي نتاج سياسة الدول العربية القطرية في تعاملها مع مختلف الأحداث، دون أن يحول ذلك من الدفاع عن المصالح القطرية أو الجوارية.
لا أود هنا ذكر أسماء دون أخرى، حتى لا أبدو متحيّزا للبعض، أو ناسيا للآخرين، وهو ما قد يُعْتبَر نوعا من التناسي أو التجاهل، لكن إذا جاز لي الحكم عن معظم القضايا التي طرحت، بما فيها الدور السعودي في الدول العربية، فإن النتيجة التي انتهيت إليها، هي أن السعودية تفرض دورها على الساحات العربية رسميا، مصحوبة بترسانة إعلامية لم تعد مكتفية بإشراف سعودي، وإنما تخطتها للمساهمة بشكل واضح في التحليل والمتابعة وإبداء الرأي، وبغض النظر عن الاتفاق والاختلاف حول ذلك الدور، فإنه آخذ في الاتساع والتمدد هذا من جهة أولى، ومن جهة ثانية أن المملكة كسبت رهان الاستثمار في الثقافة، وهي مؤهلة لتحقيق المزيد من النجاحات إذا نظرنا إلى عدد المبتعثين للدراسات خارج المملكة في عدد من الدول المتقدمة.
هنا يمكن لي الاستعانة بما طرحه الكاتب السعودي أنور عشقي، في مداخلته أثناء مؤتمر صناعة التطرف، الذي عقد في مكتبة الإسكندرية من 3 إلى 5 يناير الجاري، في الجلسة الخاصة بالأمن القومي، من أن السعودية مرّت بثلاث مراحل، هي التأسيس والتمكين والانطلاقة، وهذه المرحلة تدخلها الآن بفاعلية وحزم، ورغم أن عشقي لم يحدد لنا تجليات وحدود مرحلة الانطلاقة، إلا أنه يؤكد على أنها قد بدأت. إذا سلمنا بما ذهب إليه عشقي فإن مرحلة الانطلاق السعودية سبق فيها الدور السياسي الفعل العسكري، وسبق العسكري فيها الإعلامي، وسبق الإعلامي فيها الثقافي، والمراقب لمشاركات عناصر النخبة السعودية ومداخلاتها في المؤتمرات والندوات يدرك هذا.
الحال تلك ليست بدعا على النخبة السعودية، فقد سبقتها إليها كل النخب العربيّة بما فيها الطبقة السياسية، غير أن هذا لن يعفيها من قيامها بدور مؤثر ثقافيا وسياسيا على الصعيد العربي، دون أن يكون ذلك مقترنا بسلطة المال، من منطلق أن أيّ مساهمة سعودية هي إضافة قومية، وهذا سيؤدي في المستقبل إلى مساهمتها عبر فضاء أوسع على المستوى العربي، يضاف إلى ذلك أن التغييرات الجارية في دولنا العربية لجهة تحول أدوار المركز والأطراف، يسهّل مهمّة الحضور السعودي على المستوى العربي. عمليَّا، فإن للسعودية حضور رسمي مؤثر اليوم في العالم العربي، سلما وحربا، صحيح أن نتائجه لم تعرف بعد بشكلها النهائي، لكن هناك مؤشرات تشي ببقائه لفترة طويلة، وإلى غاية أن تستقر المنطقة، وترجح كفة النصر ونتخلص من الفتن والأزمات، مطلوب من النخبة السعودية القيام بدور أوسع وأشمل على المستوى العربي، وعليها أن تنظر من زاوية أوسع، مراعية الاختلافات القائمة في الدول العربية، التي قد تفشل كل الجهود في احتوائها ما لم يتم الدخول في حوار مباشر مع القوى العربية الفاعلة. إنه عبء كبير ودور منتظر للنخبة السعودية لا يمكن لنا تجاهله، ما دامت الدولة السعودية تنشط على أكثر من صعيد إقليميا ودوليا.