العرب - عقد المجتمعُ الدولي العزم على محاصرة البرنامج النووي الإيراني والتعايش معه مدجّنا تحت رقابة دولية مشدّدة. فاوضت مجموعةُ الخمسة زائد واحد، بصلابة ومرونة، حتى خرج ما بات مقبولا لأطراف التفاوض، حتى لو لم يكن مقبولا لكافة الأطراف الإقليمية. كان الهدفُ الغربي يروم رفع الخطر الاستراتيجي عن إسرائيل إقليميا، وتطبيع العلاقات مع إيران دوليا (ما يفتح السوق الإيراني للعقود الغربية)، وسحب تلك الورقة من الحاكم الإيراني، بما يعزز الميل نحو الاعتدال، ويفضي إلى انحسار التطرّف داخل مجتمع يتوق لمقاربة أعراض الازدهار الذي يَعدُ بها انفتاح البلد على العالم.
وعقدت إيران العزم على إغلاق الملف – الأزمة، ذلك أن العقوبات الدولية أثقلت جدّيا كاهلَ الاقتصاد الإيراني، ولم يعدْ الخطاب المتصلّب قادرا على تسويق ديمومة استقرار داخلي. فيما كشف المخاضُ الذي صاحب انتخابات عام 2009 وما واكبها من حراك في الشارع وما تبعها من قمع لما سمي بـ”الثورة الخضراء” واعتقال للقيادات الإصلاحية، أن للترياق النووي المستخدم لحماية النظام أعراضا جانبية خطيرة وقد تكون قاتلة. فهمت نُخب الحكم وجاهة المعضلة، فأتت بحسن روحاني بعد أربع سنوات رئيسا، وكلّفته وفريقه بإخراج إيران من مطحنة البرنامج النووي، وهذا ما حصل.
|
ما بين رؤى المجتمع الدولي ورؤى الجانب الإيراني، جرى رسم الصفقة بشكل ثنائي متعلّق بمصالح فريقيْن، وتمّ إخراج ذلك السيناريو من وراء ظهر أولي الأمر في المنطقة. عبّر ذلك عن جهل أو تجاهل لأبجديات الدبلوماسية وأصول القواعد الدولية، خصوصاً في ما يتعلّق بأمر جلل يتداعى على شكل وحجم ومضمون دور إيران المقبل في كل المنطقة. تعاملت واشنطن مع الهواجس الخليجية بتبسيط تقليدي لطالما اعتادت عليه إدارات البيت الأبيض المتعاقبة، فتواترت زيارات الموفدين وتكدّست التصريحات المطمئنة وتوالت المواقف التي تتعهد بحماية دول المنطقة من أي خطر إيراني محتمل.
من صلب تلك التطمينات رشحت أعراضُ قلق أكبر لدى الرياض وجُل المجموعة الخليجية. تولى الرئيس باراك أوباما الدعوة إلى قمة مع المنطقة الخليجية (مايو الماضي)، لعلّ في ذلك ما يعكس توقا أميركيا لتأكيد تلك الشراكة التاريخية الأميركية الخليجية (وخصوصاً السعودية منذ أربعينات القرن الماضي). بيد أن تلك القمّة لم تتجاوز بالنسبة إلى الخليجيين طقوس القمم الشكلية، فقاربوها ببرودة تنذر ببداية زمن آخر في المشهد الدولي الكبير. لسان حال عواصم المنطقة المرتابة كان يقول: إذا كان اتفاقكم مع إيران يستدعي تطميننا وحمايتنا، فذلك إقرار بأن ذلك الاتفاق يزوّد إيران بما يجعلها خطرا أكبر يستدعي تطمينا أكثر. في السلوك الغربي في هذا الصدد ما يفضي إلى استنتاج أن العلاقة الجديدة مع إيران، المتناسلة من اتفاق فيينا النووي، هي متن أكيد، فيما تحفّظات السعودية والدائرة الخليجية الإقليمية هي هامش ثانوي ساكن. في السلوك الأميركي ما فُهم أيضا أن الانفتاح (لاسيما الاقتصادي) الموعود على إيران يفتح سوقها الرحب أمام استثمارات جديدة في المنطقة، تضاف إلى ما هو مكتسب في نفس المنطقة داخل دول مجلس التعاون الخليجي.
المسألة حسابية صرف تتعلق بالتعامل مع “صديق” جديد لا تحتمل تحفظا واعتراضا وتوجسا من قبل أصدقاء قدماء. بيد أن علاقات الدول وتماسُها التاريخي لا يخضعان لعلم الحساب بل لعلم المنطق، وفي المنطق أن الاتفاق النووي العتيد لن ينفخ بالثمار الموعودة في ظل قلاقل كبرى تعصف بالمنطقة، سببها في الكثير من منابعها تلك “القطيعة” (دون مبالغة في الأمر) في فلسفتي الأمن والبقاء بين إيران وجُل دول المنطقة. يكتشف العالم اليوم أن ازدهار الإرهاب يعود إلى ذلك الزلزال الذي عصف بالمنطقة منذ غزو العراق (2003)، فيما مثّل “الربيع العربي” شكلا من أشكال الارتدادات التي سببها الزلزال الشهير. باتت إيران شريكة للغرب في مغامرته الأفغانية وبعدها العراقية.
أضحت طهران تشعر بأنها تملك هامش مناورة كبير يرعاه صمت دولي خبيث. أباح ذلك للمخالب الإيرانية اختراق المنطقة برمتها، بحيث تحوّل الاستثناء الإيراني الذي كشفت عنه الحرب العراقية الإيرانية، إلى تمرين عادي في المشهد الإقليمي العام. مدّت طهران نفوذها داخل العراق وسوريا ولبنان وفلسطين واليمن والبحرين، ناهيك عن ورش تشيّع في المغرب ومصر والسودان ودول أخرى (حديث عن جهود في هذا الصدد في تونس والجزائر). ويأتي هذا العام ليمحضَ إيران، بعد الاتفاق النووي، بما يشرّع الأمر الواقع، ويفرض على المنطقة القبول بالدور الإيراني وفق الخارطة التي دأبت ترسمها طهران منذ عقود.
لكن العالم يكتشف أيضا أن ورشته المعلنة ضد داعش والإرهاب، حتى بالشراكة الأطلسية الروسية الرائجة هذه الأيام، لا يمكن أن يُكتب لها النجاح، طالما أن هذه “القطيعة” قائمة بين طهران وعواصم القرار الكبرى في المنطقة. يحتاج القضاء على الإرهاب اتساقا كاملا في مواقف طهران والرياض وأنقرة أساسا، ذلك أنها الدول الإسلامية المعنية بأزمات العراق وسوريا، والمعنية بالتعامل مع آفة تنشط متسترة بالإسلام يروّجها مسلمون يتحركون داخل / ومن داخل دول إسلامية. فإذا ما أنتج الاتفاق النووي ما يعظّم من نرجسية إيران وما يفاقم من قلق الآخرين، فحريّ بمن أخرج الترياق أن يُلحقه بمضادات تابعة تعيد التوازن للمنطقة وترتقي بالاتفاق إلى ما هو ناضج، يتجاوز ما هو تبسيطي حسابي في علاقات الأمم.
لم نعد في زمن كان بالإمكان أن يُمرر داخله اتفاق سايكس بيكو البريطاني الفرنسي، بالتواطؤ مع روسيا القيصرية، دون أي اعتبار لما يراه أهل المنطقة وما يتمنونه. لم تعد المنطقة قاصرة خارجة من نظام الرعاية أيام السلطنة العثمانية. خَبِرت بلدان المنطقة تجربة الدول الوطنية، بغضّ النظر عن نجاعة أو وهن ذلك. باتت للمنطقة مصالح ومنافع يتقاطع داخلها الجغرافي بالديمغرافي بالاجتماعي بالديني بالثقافي بالاقتصادي. لم يعد بالإمكان الخضوع لما يرتئيه الكبار، ذلك أن عواصم المنطقة أدرى بشعابها، وتمتلك من الحوافز والمعطيات ما يمكّنها من تعطيل ما خططته الغرف السوداء.
تدرك النخب في واشنطن حقيقة ذلك، ويستنتج أصحاب الخبرة من ضجيج المنطقة صراعا شيعيا سنيا تقوده طهران والرياض. اعتبر البعض منهم أن إعدام الشيخ نمر النمر وردود الفعل على ذلك في إيران قوّضت مشاريع الولايات المتحدة لسوْق البلدين باتجاه ورشة واحدة لقتال داعش. في بعض المقاربات دعوةٌ لوقوف واشنطن على الحياد بين الحليف التقليدي السعودي و”الصديق” الإيراني الكامن. وفي بعض آخر دعوة للوقوف إلى جانب طرف على حساب آخر، حسب الخلفيات الأيديولوجية المذهلة لأصحاب تلك الدعوات.
لكن قد يجوز الابتعاد عن الجدل الأميركي الداخلي حول مستقبل الاصطفافات في المنطقة، للاقتراب من خرائط روسيا المطلة حديثا وبقوة على المنطقة وأهلها. يـُظهر الاتفاق النووي الشهير أن العلاقة بين إيران وروسيا لم تكن تحالفاً بالمعنى الحقيقي، ولو كانت كذلك، لما اضطرت إيران لـ”خصي” برنامجها النووي والخضوع للشروط الدولية. ولا ضرر من التذكير هنا، أن روسيا كانت عضوا فاعلا داخل المجموعة الدولية التي فاوضت إيران وفرضت عليها ما خرجت به بنود فيينا. تعرف موسكو أن حوافز طهران للقبول بالاتفاق هي الانفتاح على الغرب، وبالتالي الاستغناء نسبيا عن خدمات روسيا. يحرر الاتفاق إيران من عزلتها ويحضّرها لتكون منافسا لروسيا في قطاع النفط والغاز (لاحظ إعلان شركة الغاز الوطنية الإيرانية بناء خط أنابيب للغاز من إيران إلى أوروبا). بات التناقض الروسي الإيراني علنيا تفصح عنه التصريحات في إيران، وتكشفه تفاصيل ميدانية في سوريا، منذ أن أصبح مقتل الضباط الإيرانيين هناك من عاديات الأمور، ومنذ أن بات باستطاعة إسرائيل اغتيال سمير القنطار دون اعتراض من الماكينة العسكرية الروسية. لا شيء يدعو للتصادم في المدى المنظور، فلحربهما السورية منافع مشتركة عاجلة تستحق تعايشا.
في المقابل قد يظهر أن روسيا تحتاج للانفتاح على دول الخليج ومراعاة مصالح دول المنطقة، على الرغم من تناقض رؤاهما الراهنة في الميدان السوري. تحتاج موسكو لجهد الرياض، لا سيما في ظل خلافها مع أنقرة، من أجل انجاح مخرج سياسي للأزمة السورية يوقف تلك النار التي لا تحتملها خزينة موسكو، مهما كابر بوتين ووعد بالنصر الأكيد. تحدد الساعات الراهنة شكل الخرائط وطبيعة الاصطفافات. ستكتشف واشنطن سريعا أن القطيعة بين الرياض وطهران، وتمددها نحو كل المنطقة على ما وشى بيان الجامعة العربية الأخير، يفرّغ الاتفاق النووي من مضامينه بعيدة المدى، ويعطّل حالة التطبيع المطلوبة مع إيران، لكنها أيضا تفتح الأبواب لتمدد روسي في المنطقة، وهي التي بالكاد تتعايش مع تبختر بوتين العجيب في سوريا.