العرب - التدخل العسكري الروسي في سوريا لم يكن حدثا عرضيا وليد ردود الفعل العاجلة لإنقاذ نظام بشار الأسد من السقوط، رغم أنه كان واحدا من بين الأهداف اللوجستية الروسية المهمة، لكنه نتاج اعتبارات المصالح الاستراتيجية التي نمت بسرعة على طاولة فلاديمير بوتين الذي استفاد من الفراغ الجيوسياسي الذي أحدثته سياسة باراك أوباما في كل من سوريا والعراق لصالح من يتمكن من ملء الفراغ (إيران وروسيا وإسرائيل)، ورغم جميع التعقيدات والتشابكات في مصالح الكبار والصغار في المنطقة، فإن التدخل العسكري الروسي والانسحاب المفاجئ أثارا العديد من التساؤلات خصوصا في تأثير ذلك على النفوذ الإيراني في كل من سوريا والعراق.
هناك أولا مشتركات الضحية للشعبين السوري والعراقي، فكلاهما يتعرض للتجريف من الأرض والجغرافيا والتاريخ. كلاهما يواجه برنامج محو ذاكرته التاريخية تحت وقع الدم والتشرد. كلاهما يقع تحت النفوذ الإيراني الذي يتجاوز في مخاطره أساليب الاستعمار التقليدي. إيران تعتقد أنها جعلت العراق تابعا لمحميتها ليس على مستوى قمة الهرم السياسي، وإنما على مستوى جغرافية الأرض بعد محاولات محو تاريخها، وقد زرعت في العراق أدوات تشتغل لديها لقاء المال والجاه لتنفيذ هذا المشروع من دون ضجيج، وأحيانا بضجيج الناس المهجّرين من مساكنهم وأراضيهم التي يمتلكونها منذ آلاف السنين بطريقة أبشع مما قام به الكيان الإسرائيلي في فلسطين وفي مناطق مختارة بدقة في العاصمة بغداد وفق التقسيمات الطائفية السريعة، وصولا إلى رسم خرائط جديدة تشمل العطيفية والمنصور والدورة واليرموك والعامرية، امتدادا إلى أطراف ديالى وتشابكاتها مع الأكراد. وكذلك صلاح الدين وبالذات في مدينة سامراء لاعتبارات وجود مرقدي الإماميْن العسكرييْن رغم أن أهالي سامراء، وجميعهم من العرب السنة، احتضنوا هذين المرقدين، وقد نفذ مخطط شراء العقارات المحيطة بالمرقدين من قبل بعض الشيعة الموالين لإيران، زحفا نحو دائرة أوسع إلا أن العشائر السامرائية تقف بقوة بوجه هذا البرنامج للتغيير الديموغرافي، وهناك مشروع إداري لنقل قضاء سامراء إلى محافظة بغداد. إيران تعلم بأنها لم تقدم شيئا للشيعة العرب في العراق بل هي تحتقرهم، ولهذا رأينا المتظاهرين في محافظات الجنوب يطالبون إيران بالرحيل عن العراق.
وإيران (الفارسية الصفوية) حينما احتلت العراق قبل خمسمئة عام وبطشت بالسنة، أجبرت الشيعة العرب في النجف على تدوين الوثائق الصفوية في مواثيقهم لكنها لم تتمكن من قتل الروح العراقية عندهم. واليوم تمارس إيران شكلا عصريا من الوصاية، وفرمان ولي الفقيه هو النافذ على السياسيين “الشيعة” في بغداد وليس على المواطنين، ورغم قدرة السفارة الأميركية على تعطيله، لكنها تأتمر بسياسة البيت الأبيض والرئيس (الأسود ابن الحاج حسين) وتكتفي بالمراقبة، والسفير الأميركي يكثر من اللقاءات لإعداد التقارير وإرسالها إلى واشنطن.
النفوذ الإيراني في العراق لم يتحقق بهذا الشكل لولا سياسة واشنطن خلال اجتياحها العسكري للعراق عام 2003 حيث تعرضت لخديعة إيران بأنها ستساعدها على احتلاله، وأن واشنطن ستواجه المصاعب إن دخلت بمفردها من دون طهران وقد يتعرض جيشها إلى الكوارث، وكان السفير زلماي خليل زادة من أبرز العاملين في التعاون الإيراني الأميركي إلى جانب العراقي الراحل أحمد الجلبي في احتلال العراق. عمقت النفوذ الإيراني سياسة أوباما المتخاذلة الذي وصل به الحال إلى أن يدعو السعودية من خلال تصريحاته الأخيرة لصحيفة آتلانتيك إلى عقد اتفاقية خضوع للنفوذ الإيراني.
الحصانان الجامحان الروسي والإيراني غير متوافقين في ما بينهما إضافة إلى النفور العام من قبل أهل المنطقة تجاههما؛ فهناك تضارب في المصالح الاستراتيجية الروسية والإيرانية في كل من سوريا والعراق أكثر من الانسجام والتوافق. إيران رحبت بالتدخل العسكري الروسي في سوريا، لكون روسيا طرفا دوليا قويا قادرا على استخدام سلاحه الجوي الفعال، ومن المفارقات أن إيران لم تستخدم، إلى حدّ اليوم، طيرانها لا في العراق ولا في سوريا.
التدخل العسكري الروسي حافظ إلى حدّ بعيد على بقاء بشار الأسد في الحكم وتلك مصلحة روسية إيرانية مشتركة، ودخول طرف دولي مهم كروسيا يخدم إيران مرحليا. رغم أن الأهداف اللوجستية الروسية سعت إلى تقليص النفوذ الإيراني وتحجيم دور الميليشيات التي كان لها الدور القيادي في العمليات العسكرية في الأراضي السورية. روسيا تدعم المؤسسات الرسمية الحكومية السورية، أما إيران فتعمل بين صفوف المؤسسات الشعبية “الشيعية” وهي تمهد لاستنساخ تجربة الحرس الثوري الإيراني في سوريا والعراق. وقد دعت إلى تأسيس سرايا “الدفاع الوطني” بعد تراجع نظام بشار عن التجنيد النظامي. مثلما شجعت بناء الحشد الشعبي في العراق، كبديل لمؤسسة الجيش العراقي، وتعطيل قيام “الحرس الوطني” المدعوم أميركيا، كما أن الاتحاد السوفييتي الأب الروحي لروسيا بوتين كان قد وقف إلى جانب العراق ضد إيران في حرب الثماني سنوات. ولقد صُعقت إيران من احتمالات التدخل العسكري الروسي في العراق على وقع الحرب على داعش، رغم الصعوبات اللوجستية لروسيا غير القادرة على شن الحرب على جبهتيْ العراق وسوريا في وقت واحد، بل إن من جملة أسباب الانسحاب العسكري من سوريا هي التكاليف الباهظة لتلك الحرب، وقد استبشرت إيران بالخلاف الروسي التركي، وعملت من طرف خفي على تصعيده لأنه يضعف تركيا في العراق التي ترى فيه إيران محمية لها، ولا تفرط فيه حتى لو خسرت سوريا، لأسباب تتعلق بجوهر الأمن القومي الإيراني الذي جعل من الأراضي العراقية السياج الحديدي لحماية المصالح الإيرانية.
إيران خصم اقتصادي متصاعد لروسيا في المستقبل القريب بعد الاتفاق النووي وانفتاحها على الغرب وخشيتها من خسارة مشروعها المنتظر لتصدير الغاز الإيراني عبر الأراضي السورية كبديل للخط الروسي الذي من المحتمل أن تخسره روسيا فيما إذا أزيح بشار الأسد عن الحكم وسقطت سوريا بيد أميركا، واحتمال استحواذ قطر على خط الغاز الاستراتيجي عبر تركيا وسوريا. ولعل من أبرز الأمثلة على انزعاج إيران من روسيا هي سياسة بوتين في الانفتاح على السعودية ودول الخليج والزيارات المتبادلة والإغراءات الكثيرة لموسكو، ليضمن مصالحه، ولهذا ساندت روسيا ودعمت القرار الدولي 2216 بشأن حرب اليمن وإدانة الحوثيين. وهنا لعبت إسرائيل، بمهارة، في شأن التدخل الروسي العسكري بسوريا حيث جرى تنسيق استخباري روسي إسرائيلي قوي قبيل الاجتياح العسكري الروسي لسوريا. وقد نشر مركز أبحاث الأمن الإسرائيلي أخيرا خطة استراتيجية أفادت بضرورة استخدام التدخل الروسي لإزالة خطر إيران وحزب الله على إسرائيل، وهناك مشتركات إسرائيلية روسية إسرائيلية؛ فروسيا لا تريد لإيران أن تثير القلاقل على حدودها الجنوبية، وإسرائيل لا تريد لحزب الله أن يقوى في سوريا ويهدد أمن إسرائيل.
بالمقابل هناك حديث خفي عن صفقة إيرانية تسعى من خلالها طهران إلى ضمان أمن إسرائيل مقابل السيطرة على القرار في بلاد الشام والعراق. إن لم يتحقق ذلك بوحدة سوريا فبتقسيمها إلى ما يسمى بـ”سوريا المفيدة”، أي سوريا العلوية مقابل سوريا السنية وسوريا الكردية، أما العراق فتريده إيران كله، والمقصود بالكل النفوذ الكامل في الوسط العربي والجنوب، والنفوذ غير المباشر من خلال الأكراد، ومع ذلك كله لو أرادت واشنطن لأخرجت إيران من العراق ولوجدت غالبية العراقيين معها رغم المظاهر المخادعة على المسرح السياسي، كما أن روسيا ليس لديها أيّ نفوذ في العراق والمنطقة ما عدا نفوذها اليتيم في سوريا بسبب وجود بشار الأسد الذي لن يبقى خالدا. كلا الحصانين الروسي والإيراني خاسران في العراق والمنطقة.