الرياض - ضجيج الحرب الإعلامية الذي صاحب الأزمة السعودية-الإيرانية الأخيرة يكاد يطغى على صوت العقل، فقد اندفعت جيوش "المحللين" و"الخبراء" إلى شاشات التلفاز لبناء سيناريوهات لما ستؤول إليه الأحداث، لا أحد يملك مفاتيح الغيب وكشف النوايا، ولكن ما حدث كان نتيجة لسلسلة طويلة من الأحداث المتراكمة في المنطقة بفعل سياسات خارجية وإقليمية إيرانية تسعى لتنفيذ أجندات وكسب مناطق نفوذ بدوافع أيديولوجية واقتصادية وجغرافية وربما شخصية.
في هذا العالم الذي أصبح بدون شرطي بعد تخلي الولايات المتحدة عن دورها الذي ادعته كحارس للسلام العالمي وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي ووصول شخصية براغماتية مثل فلاديمير بوتين الذي يحاول إعادة بناء أمجاد روسيا القيصرية مستغلاً الانكفاء الأميركي السياسي والعسكري ظهر لاعبون صغار يحاولون استغلال الفراغ والارتفاع لأكثر من قاماتهم الحقيقية.
لكن الأخطر في عالم السياسة هو عندما تتعامل مع مغامرين وأشباح ودكاكين تبيع أفكارًا مضللة عفى عليها الزمن وهي أفكار لا تؤدي إلى رقي الإنسان وسعادته ورفاهه، ناهيك عن أنها قد تؤدي به إلى سوء العاقبة.
وباعتقادي أن هذا هو أصل مشكلتنا مع إيران التي ابتليت بمنظّرين جهلة استغلوا بساطة الإنسان وطيبته لانشغاله بقضايا تلهيه عن الشأن العام وتحجبه عن التفكير السليم، وهنا قد تصدق مقولة ماركس-رغم اختلافنا معه-"الدين أفيون الشعوب" إذا ما جعل أحدنا يكره "الآخر"، فما بالك إذا ما اجتمع "الفكر" الظلامي المخدّر للعقل مع التعاطي العملي للأفيون (آخر الإحصائيات تقول إن 100 إيراني ينضمون إلى جيش مدمني الأفيون كل يوم). هذه هي مشكلتنا مع إيران ويجب أن تعالج من هذا المنظور لأن كل ما يصدر عنها من تصرفات هو نتاج هذه الآيديولوجيا مهما كانت أشكالها. لقد مضى على ما يسمى بالثورة الإيرانية أكثر من ربع قرن، فما الذي حققته؟في الحقيقة أن هذه الثورة خانت ذاتها وانحرفت عن مسارها.
لقد كان الأجدر بالقائمين عليها أن يغلقوا أبوابهم ويحلوا مشكلاتهم ويطبقوا المبادئ التي انطلقت الثورة من أجلها -إن كان لها مبادئ أصلاً- قبل الانطلاق إلى الساحات المجاورة على طريقة تشي جيفارا بعد تحرير كوبا- رغم الفارق الصارخ بين الثورتين.
لو كان في إيران عقلاء لأدركوا أن عهد تصدير الثورات قد ولّى فهم لا يمكن أن يكونوا أقوى من الثورة الشيوعية، وشعاراتهم ليست أقوى من شعار "يا عمال العالم اتحدوا"، وكلنا يعلم ما الذي جرى للشيوعية ومبادئها التي قد تكون محقة في بعض جوانبها لكنها أخضعت الإنسان لعبودية كانت تدّعي أنها جاءت لتخليصه منها.
ونحن بالتأكيد لا نفرض قناعاتنا على الآخرين، "فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر" لكننا لا نتصالح مع من لم يفهموا روح الإسلام الذي جاء لتخليص الناس من عبادة الإنسان إلى عبادة الله، وها نحن نرى من يريد أن يعيدنا إلى ما قبل الإسلام. هذه المقولة قالها عربي فقير لكنه مؤمن وهو يدق بساط كسرى برمحه في بدايات الإسلام الأولى.
قيادة المملكة اكدت مرارًا وتكرارًا أنها ليست ضد الإنسان الإيراني وأنها لا تكن عداءً له بل بذلت كل جهد لإقناع "القيادات" الإيرانية بالتوقف عن الشحن الطائفي وعدم حشر الدين في السياسة، فإذا كانوا يصرّون على التمسك بدولتهم الدينية وولاية الفقيه، فهم أحرار في ذلك، لكنهم ليسوا أحرارًا في دس أنوفهم في حياتنا وادعاء الولاية على كل من ينتمي إلى مدرستهم الفكرية، كما تفعل الصهيونية العالمية.
كل هذه السياسات المغامرة هي التي تفرّخ كل يوم تنظيمات أبو الفضل العباس وحزب الله وأنصار الله وذو الفقار وسيد الشهداء ومنظمة بدر وعصائب أهل الحق والنجباء وأسد الله وجيش المهدي وجيش المختار المشحونة بحقدها الطائفي.
لذلك، على العالم أن يدرك أننا لا نتعامل مع دولة متحضرة وإنما مع عصابات ذات عقليات انقلابية تخريبية، وهذا ما جعل المملكة تقطع "شعرة معاوية" مع هذا "النظام" بعدما تجاوز كل الأعراف والقوانين الإنسانية والدولية. لقد أرادات قيادة المملكة أن تضع إيران في حجمها الحقيقي ونرجو أن يكون بعض عقلاء إيران قد استوعبوا هذا الدرس. أما الحديث عن سيناريوهات مواجهة مباشرة، فنأمل ألا يحدث ذلك وإلا فستكون على نفسها قد جنت براقش.