العرب - أغلق رفع العقوبات المفروضة على إيران، منذ ما يزيد على عشر سنوات، قوس الأزمات الذي ظل مفتوحا لأمد طويل بين النظام الإيراني والغرب، وبشكل خاص الإدارة الأميركية. فقد تلقّت طهران شهادة حسن السلوك من واشنطن بإعلان رفع العقوبات، وتنفست طهران الصعداء بعد أن زال جبل الجليد بينها وبين الشيطان الأكبر، والسؤال الذي بات يطرح نفسه بعد الآن هو: ماذا بعد الآن؟
في خطابه الأخير، الوداعي، حول حالة الاتحاد الأميركي، أعرب الرئيس باراك أوباما عن ابتهاجه بنجاح إدارته، خلال الفترة الأخيرة، في فتح صفحة جديدة مع نظاميْن ظلاَّ طيلة العقود الماضية مصدر انزعاج لدى الإدارات الأميركية المتعاقبة، وهما كوبا وإيران. وقد أكد أوباما أن التحدي الجديد الذي تواجهه بلاده لم يعد هذه الأنظمة التي كانت محسوبة على “محور الشر”، بل أصبح يتمثل في الجماعات المتطرفة والإرهاب العابر للحدود، الأمر الذي يتطلب من الولايات المتحدة توثيق التعاون مع شركائها وحلفائها لملاحقة هذه الجماعات الإرهابية والقضاء عليها.
إيران، بدورها، ابتهجت للصفقة الجديدة التي أبرمتها مع البلدان الغربية والإدارة الأميركية، والتي ستمكنها من إعادة “تدويل” نفسها معتمدة على شهادة حسن السلوك التي حصلت عليها، وإعادة اكتشاف دورها الجديد في المنطقة وعلى الصعيد العالمي. فرفع العقوبات يعني إمكانية تسويق النفط الإيراني في الأسواق الدولية، ودخول حلبة المنافسة السياسية من بوابة أسعار البترول، ولكنه يعني أيضا إطلاق يد النظام الإيراني في أي مناورات سياسية يمكن أن يقررها.
فطهران التي لجأت إلى الانخراط في المناورات السياسية في المنطقة طيلة الفترة الماضية، والتي كانت خلالها واقعة تحت ضغوط العقوبات، قد ترى بأنها ليس لديها ما يمكن أن تخسره في حال ما سعت إلى مضاعفة وتيرة تلك المناورات وهي متحررة من تلك العقوبات، ذلك أن من تدرب على الركض في المرتفعات يسهل عليه أن يفعل ذلك بشكل مضاعف في المنبسط. من الصعب التكهن بطبيعة السياسة الإيرانية في حقبة ما بعد رفع العقوبات، لكن من السهل التقاط نوعية التحولات الجارية اليوم في المنطقة، وسياق هذا الانفتاح الجديد بين إيران والغرب.
خلال الأعوام الماضية ظل المشروع النووي الإيراني هو نقطة الخلاف الجوهرية بين الإدارة الأميركية وبين إيران، وفي جميع جولات التفاوض التي كانت تجمع بين طهران والعواصم الغربية كان هذا المشروع النووي هو النقطة الأبرز في جدول الأعمال. فواشنطن ظلت ترى أن انعدام الاستقرار الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط نابع من نية النظام الإيراني تخصيب اليورانيوم ومواصلة مشروعاتها النووية، رغم أنف الإرادة الدولية، لكن من دون أن تنظر إلى الجوانب الأخرى المرتبطة بالدور الإيراني في محيطه الإقليمي. وهذا يظهر بأن المصالح الأميركية كانت هي المقياس الرئيس الذي تقيس به الإدارة الأميركية موقفها من طهران، ومن خلف المصالح الأميركية الحليف الاستراتيجي لواشنطن، ممثلا في إسرائيل.
وفي الوقت الذي انزلقت المنطقة في صراع طائفي غير مسبوق، نتيجة المحاولات الإيرانية لإعادة رسم خارطة الإقليم وخلخلة التوازن الطائفي، كان ما يهم الإدارة الأميركية بوجه خاص هو المشروع النووي الإيراني دون غيره. بل إنه يبدو أن الإدارة الأميركية، ذات السياسة التقليدية المعروفة في الشرق الأوسط، تدرك بأن التوقيت أهم من الحدث السياسي أحيانا، مهما كان حجمه، وتنظر من ثم إلى خطوة رفع العقوبات عن إيران بوصفها جزء من ماكينة سياسية تفيد في ضبط الوضع الإقليمي، من خلال الحفاظ على “توازن” مختل تلعب فيه إيران دورا محوريا في المرحلة القادمة، خاصة بعد صار الصراع السني – الشيعي محور الاستقطاب في المنطقة، والخطر الذي يهدد بتفجيرها، إذ لم يعد خافيا أن إيران، التي تسعى منذ عقود إلى خلق محور شيعي في المنطقة، سوف تجد في المناخ الجديد الذي يتيحه لها رفع العقوبات فرصة جديدة لاستئناف خياراتها السياسية.
يشكل رفع العقوبات وعودة إيران إلى المسرح الدولي تحولا نوعيا في المعطى السياسي العام في المنطقة، وهو تحول يتزامن اليوم مع الانقلابات الكبرى التي تمر بها المنطقة، ولذا يتعين على الجانب الإيراني أن ينظر إلى هذه الصفقة بينه وبين الغرب والإدارة الأميركية على أنها فرصة لاختبار نواياه حيال بلدان المنطقة، لا هدية مجانية في ظرفية توجد فيها المنطقة فوق رمال متحركة. فالسياسة ليست فقط فن صناعة الأزمات، بل هي بشكل رئيسي وهام فن الالتفاف عليها.