الحياة - تبدو حظوظ «المعتدلين» الإيرانيين بقيادة روحاني (مدعوماً برفسنجاني) مرتفعة منذ أن نجح في المهمّة التي أوكلها إليه الوليّ الفقية في إفراغ الدمّلة النووية من قيحها وتخليص البلاد من أعراض تحوّلها إلى ورم قاتل. ومن ينجح في تحقيق ما كان قبل ذلك محرّماً ومستحيلاً بإمكانه الاستقواء والمجاهرة في اتخاذ موقف صلب مستنكرٍ للهجوم على السفارة السعودية في طهران وقنصليتها في مشهد، مع ما استتبع ذلك الموقف من اعتقالات طاولت «المتسببين» ووعدٍ بمحاكمتهم وإنزال العقوبة بهم.
يدافع روحاني عن إيران الجديدة التي يتّسق سلوكها مع مداولات فيينا، وهو الذي اشتبه في «البلطجة» ضد الوجود الديبلوماسي السعودي، محاولة لاجترار سلوك المراهقة الذي صاحب صعود الخمينية، وبالتالي العودة بالبلد إلى ما قبل الانجاز «التاريخي» في فيينا (الذي لم يرض عنه الوليّ الفقيه، وفق تصريحات مستشاره حسين شريعتمداري لـ «كيهان»).
منذ أن خرج مواطنوها يحتفلون في الشوارع بـ «النصر» المحقق على طاولة المفاوضات، منّت إيران النفس بتطبيع كامل مع المجتمع الدولي، يجعل تواصلها مع دول العالم الغربي أمراً محسوماً مطلوباً، لم يعد بالامكان المكابرة في شأنه. ولئن تحتشد الشركات الدولية أمام أبواب طهران، إلا أن أن التقارير الدولية تشكك في استعداد البلد، في قوانينه ورواج الفساد في مؤسساته، في تقديم الإغراءات المطلوبة لاندفاع تلك الشركات إلى الاستثمار داخل بيئة ملتبسة في نقاء تشريعاتها، وآمنة في مشهدها الإقليمي المعقّد.
سيكون أمام الإيرانيين دربان اجباريان. الأول يتعلّق بتجهيز البلد للانتقال إلى عهد الاتفاق، فيجري ترشيق أدائه للاتساق مع الشروط الدولية الحديثة. في ذلك أن الانتخابات المقبلة، بشقّيها البرلماني وذلك المتعلّق بمجلس الخبراء، ستحدد قدرة الإصلاحيين على الإصلاح ومساحة الهوامش المتاحة في هذا الصدد. ستحدد موازين البرلمان المقبل والظلال الأولية لشخص المرشد العتيد (حتى في حال بقاء خامنئي).
ليس فقط نفوذ المعتدلين في الحصّة الحاكمة، لكن أيضاً مدى امكانات تضييق رقعة السطوة التي يهيمن من خلالها المحافظون داخل المؤسسات السياسية والاقتصادية والدينية والعسكرية والأمنية. سيكون أمام روحاني ومعسكره وضع حدود التعايش من عدمها مع ثقافة الحرس الثوري ونفوذه داخل مؤسسات السلطة والثروة في البلاد. ولا ريب أن علاقة عكسية ما ستقوم بين تنامي دخول الاستثمار الأجنبي وإمساك الحرس الثوري بتلابيب الاقتصاد والمال في البلاد.
والدرب الثاني يتّصل بتبريد موقع إيران في المشهد الإقليمي العام، ذلك أن رأس المال الدولي لن يلجَ فضاءً متوتراً تشي يومياته بانفجار دائم وصدام متنامٍ مع الجوار، على النحو الذي تَعِدُ به الأزمات في اليمن والبحرين والكويت والعراق وسورية ولبنان. وربما أن التهديدات التي أطلقتها طهران عقب إعدام نمر النمر، وما واكب ذلك من قلق دولي من احتمال نشوب حرب مباشرة مكان تلك التي تدور حالياً بالوكالة، ما ينفّر المجتمع الاقتصادي الدولي من المخاطرة في الاطلالة على منظر بركاني لا يتواءم مع أبجديات الإستثمار.
على أية حال، لن تُزيل الانتخابات المقبلة، مهما كانت نتائجها مروّجة لخطاب روحاني، المعضلات البنيوية لإيران. يملك المحافظون تراكماً نوعياً في الداخل الإيراني لا يمكن تجاوزه من خلال صناديق الإقتراع، هذا مع العلم أن قوانين الترشح والانتخاب تقيّد امكانات المنافسة على النحو الذي قد يأمله المتفائلون. على أن البيئة الخارجية باتت تحمل الماء إلى طاحونة فريق المفاوضين الإيرانيين في فيينا ومن يقف خلفهم في طهران، فيما يبدو ارتباك المحافظين كلياً، سواء في ردّ الفعل الصبياني على مسألة إعدام مواطن سعودي من قبل السلطات السعودية بناء على حكم قضائي سعودي، وسواء في الموقف الخليحي العربي المتصاعد بشبه اجماع ضد إيران، وسواء في عودة واشنطن لتلعب أدواراً عسكرية أساسية في العراق، وسواء في هيمنة روسيا على القرار السوري وتحوّل القوى العسكرية الإيرانية والميليشيات التابعة لها إلى أداة من أدوات الجهد العسكري الروسي هناك.
تكمن أهمية الانتخابات الإيرانية هذه المرة، والتي يذهب البعض إلى وصفها بالانتخابات الأكثر أهمية منذ نشوء الجمهورية الإسلامية، في ما ستستشرفه من ظلال لإيران ما بعد اتفاق فيينا. يستندُ روحاني على ذلك الاستحقاق لتطوير ما رسمه، وهو الذي أنجز بالأرقام ما يمكّنه من الاعتداد به في إدارة الشأن العام (لا سيما في خفض نسب التضخم رغم العقوبات)، كما يعتبره المرشد آية الله علي خامنئي مفصلياً واعداً، فيدعو مواطنيه للإقبال عليه بكثافة. وتكمن أهمية الانتخابات أيضاً، أن لها بعداً إقليمياً مباشراً تنتظره كثير من الملفات (الرئاسة في لبنان نموذجاً) في كافة الميادين التي تعبث طهران في مآلاتها، كما أن لها بعداً دولياً سيحدد الإرهاصات الأولى لموقع ودور ووظيفة إيران في المشهد العالمي العام.
نفّذت إيران تعهداتها النووية بوتيرة أعلى من المتوقع، على ما لاحظت «واشنطن بوست». ذلك أن جناحيّ البلد، المعتدل والمحافظ، يعوّلان كثيراً على ما سيحمله رفع العقوبات للنظام الإيراني. على أن تناقضاً مباشراً يقوم ما بين الجناحين، ذلك أن المحافظين يتأمّلون من وفورات الاتفاق المالية وتعليق أعبائه تمكيناً للحكم في تدبير أمر البلد وامتداداته الإقليمية الطموحة، فيما يروم الاصلاحيون جرّ البلد نحو وصل بالدوائر العالمية مع ما يلازم هذا الوصل من انقلاب في طبيعة الحكم وهوية الحاكمين.