2016-01-29 

مدرسة الحرب الخالدة

محمد المزيني


الحياة - أشد ما يدهشنا ويثير إعجابنا تلك الدول التي خرجت من تحت أنقاض الحروب المدمرة، بعدما هدتها أهوالها وتخطفتها من كل حدب وصوب، إذ نبعت من جديد بما يشبه الإعجاز والأسطورة، ناهضة تلملم شعثها مستثمرة كل ما مرت به في إعادة خلق واجهة جديدة، على رغم كل الأزمات المالية التي تقعد أشداء الرجال عن مواصلة سيرهم على خطى النهضة والترقي، إلا أنهم على رغم كل ما حدث، وعلى رغم مصادر الثروة الشحيحة التي بين أيديهم، أصبحوا في أقل من 40 عاماً دولاً صناعية كُبرى.

 

لم تعقها أفواه الملايين الجائعة والمكلومة بآثار الحروب، ولم تتخذ ذلك ذريعة للتقاعس عن صعود سلم الحضارة والترقي. برأيكم ما هي الخلطة السحرية التي أخرجتهم من مأزقهم التاريخي إلى أن يصبحوا علامة فارقة ومعادلة صعبة بين الأمم؟ إضافة إلى المقولة المتعارف عليها بـ«أن الحروب تعيد صياغة مفاهيم الإنسان للكون والحياة»، فإن ثمة سر حقيقي يكمن في الإيمان المطلق بقدوة الإنسان وقدراتها الخارقة التي استودعها الله به وميّزه بها عن سائر المخلوقات، ولكن لم يحدث هذا معنا أمة العرب، مع كثرة الحروب التي لا تزال تكرر نفسها بوجوه مختلفة.

 

فمن حروب نتورط بها مع غرباء مستعمرين، إلى حروب تنشب بيننا بصور مختلفة، ومع ذلك لا توردنا سوى الضعة والتخلف؟

لو تبصرتم معي من دون أن تحملوني أوزار التأويلات المتعجلة، خصوصاً ونحن في منعطف تاريخي حاد، ربما تتشكل فيه دول، أن كل تلك الدول التي نهضت من أعماق مآسي وحروب قادت إليها أطماع إمبراطوريات مدفوعة بعرقيات وأيديولوجيات زعمت ذات يوم بجيوشها الجرارة أنها قادرة على احتلال الدول وتدجين الشعوب، ثم اندحرت وذاقت وبال أمرها، لعلنا ندرك جيداً أن سر الخلطة السحرية الذي جعل بعض أجزاء من العالم يتبوأ هذه المكانة العالمية، والصيت الذائع في نموها وتقدمها.

 

على رغم تعدديتها العرقية والدينية لا يكمن في مواقعها الجغرافية الاستراتيجية التي قد تحرك ذائقة الطامعين للاستحواذ عليها، وليس لأنها تسبح فوق بحار من النفط أو حتى القار، بل في إرادة الحياة، لأنها جربت ويلات الحروب المدمرة، واكتشفت أنها في رهان خاسر مع نفسها والآخرين متى استمرأت تقسيم الإنسان ووضعه في خانات معينة تصفه شكلاً لا مضموناً، مدركةً جيداً أنها متى أرادت أن تتخذ طريقها صعداً في سلم الحضارة أن تعمل على مكانتها جيداً خارج دوائر الاستقطابات السياسية والطائفية والعرقية.

 

فبعدما تجرعت مع بداية القرن الـ20 ويلات الحروب والصراعات، اكتشفت عمق مأساتها، واستدركت ذاتها الإنسانية الحقيقية، وجعلت للحروب ذاكرة بشعة مهما تقادم الزمن وطمرته السنوات الطويلة فستظل موبقاتها، ماثلة للعيان، وقد جعلت لها أنصاباً في ميادينها العامة، وتركت شيئاً منها لتذكرها بها، وهي تتلذذ بطعم الحرية والانعتاق من لوثتها، هذا المعنى الحقيقي للمأساة التي تصنع الحرية من عقول الناس وواقعهم، فلم تعد فرقعة شعارات أو مبادئ جامدة تعبأ في كراريس تلاميذ المدارس، بل هي حياة يومية للعيش وللتفكير وحتى للنوم.

 

هذا التنمر واستشعار القوة لم يعد له مكاناً اليوم، في عالمنا العربي وفي سبيل الوصول إلى الحرية دمرنا كل مكوناتنا التاريخية والمعيشية، الذي نمر به اليوم صعب جداً، هذه الحروب التي تقودها ميليشيات متعددة الجنسيات والمشارب، أورثنا حالاً من التردي والضعة تكاد نحن في الخليج العربي مررنا بتجارب مؤلمة لكنها خلاقة، اتسع وعينا من خلالها على معنى الحياة والموت، والدمار والبناء، أصبحنا مسكونين بمتلازمة التهديدات الخارجية، وخطورة التسلل إلى عقر ديارنا لضعضعة الأمن والسكينة، وتدمير بنائنا الحضاري الذي بدأنا به ومستمرون عليه، لذلك لم تكن السعودية ومن ورائها دول الخليج مرغمة على دخول معركة «ما» وهي تنعم بكل هذه الإنجازات.

 

لولا وعورة الخطر الذي بات يتهددنا، فإيران التي ظلت زهاء 30 سنة تنخر في جسدنا العربي بلغة النار والحديد على إيقاع طائفي قذر، توخت استثمار هذا المعمعة والصراعات الناشبة في سورية والعراق واليمن لتغرس سهامها المسمومة، لجرنا إلى مستنقعها الآسن، فلما عجزت عن زحزحت المواقف الخليجية السياسية الثابتة إلى عمق هذه الصراعات، لم يعد أمامها سوى تثوير عملائها في المنطقة لإشغالنا بها، حتى توهن كياننا الصلد بينما هي تبني مفاعلاتها النووية وتعقد الاتفاقات شرقاً وغرباً، مستخدمة في ذلك بعض الأبواق الإعلامية العربية التي تمجدها، وتدفع بتزيين صورتها الذهنية أمام العالم.

 

خمنت أن الخليج كيانات هشة، من السهل جداً نبشها وقلب موازينها واحتلالها من خلال خونتها في المنطقة، فلم يكن يرد في مخيلتهم ولا مخيلة إيران أن السعودية ومن ورائها دول الخليج ستذهب إلى أبعد من أهداف طهران، التي صممتها على مقاس ملاليها وعنجهياتهم، وأنها ستقذف بكرة اللهب خارج ديارها وتعلن عن «عاصفة الحزم»؛ لتجتث أورامها السرطانية التي حقنتها بالكراهية.

 

نحن لا نحب الحرب ونفر منها فرار الأسد، فما حيلة المضطر إلا ركوبها، لأن المخيلة التي تدفع ضفادع إيران التي أشغلتنا بنقيقها، بنت طموحاتها المذهبية على إسقاط البحرين، لتكون كماشة في خاصرة السعودية الشرقية، ومن خلالها تمرر ثورتها الانقلابية لأذنابها الخونة في المنطقة، ومن الجنوب تمكن الحوثي من الاستيلاء على اليمن ولتضع يديها على باب المندب وتحاصرها من الجنوب، وتشاغلها بحرب استنزاف لا تنتهي،

 

في الوقت الذي تغذي فيه الحس الطائفي بالكويت، وتثوير شيعتها للانقلاب على شرعيتها السياسية المتمثلة في آل صباح، وساعة يتحقق لها كل هذا لن يبقى لها سوى الإمارات المتشاكلة معها في طنب الكبرى والصغرى وجزيرة (أبوموسى)، وعُمان التي تقيس مصالحها دائماً وفق العوائد النفعية المضمونة التي تجنبها أدنى خلاف مع الآخرين. إضافة إلى قطر التي لن تكون صعبة جداً على العابرين بعد ذلك، ثم يأتي من ينحي باللائمة على السعودية؛ لأنها تدافع عن وجودها ووجود دول الجوار، في زمن عثت فيه الأطماع وتألبت الذئاب على عالمنا العربي.

ليذهب كل هؤلاء الى الجحيم.. عاش الخليج حراً أبياً.

 

التعليقات
أضف تعليقك
الأكثر قراءة
مواضيع مشابهه