الحياة - أرخت التحولات التي عصفت مؤخرا بالساحة اللبنانية من ترشيح الدكتور سمير جعجع للجنرال ميشال عون لرئاسة الجمهورية، وما تبعه من فتور للعلاقات بين القوات اللبنانية وتيار المستقبل يصل إلى حدود القطيعة، ظلالا قاتمة على واقع لبنان وعلى التصورات المتعلقة بمستقبله. عاد كل طرف إلى مواقعه الضيقة، وظهرت التحالفات والتفاهمات التي كانت تسعى إلى ملامسة السياسة بوصفها حجابا سميكا من التكاذب العام، وقد ذاب فجأة ليكشف عن البنية الفعلية والحقيقية، التي تسم علاقة الأطراف السياسية ببعضها في بلاد الأرز، وهي الطائفية.
الطائفية ليست سياسة بل هي حرب صافية، لا تحتمل السياسة وتنظر إليها نظرة احتقار، وترى أنها ضعف ووهن لا بد من تجاوزه والقضاء عليه. من هنا ظهرت التفاهمات والتحالفات بين مختلف الأطراف في لبنان في لحظة انكشاف الأحجبة وسقوط الأقنعة بوصفها وهنا وضعفا وتراخيا، قد تم تجاوزه وتفكيكه، والعودة إلى لحظات النقاء الطائفي التي لا يمكن صيانة نقائها، إلا بإعدام السياسة، والتنكيل بجثتها.
ما أرساه ترشيح جعجع لعون من إعدام للتحالف بين جعجع وتيار المستقبل من ناحية، والتمهيد لإعدام مثيله بين عون وحزب الله، وعودة الحديث عن الصراع المسيحي الإسلامي في لبنان، يقول إن الطائفية باتت هي الصيغة الناطقة باسم الهويات في لبنان، وهي تتركب وفق منطق يربط كل طائفة في لبنان بسلسلة من الصراعات المندلعة في الإقليم والعالم، ويجعلها جزءا منه. الطائفة الوحيدة في لبنان التي كانت حتى هذه اللحظة تغالب الدخول في التعريف الطائفي لهويتها كانت هي الطائفة السنية، التي كان القسم الغالب منها ينضوي تحت لواء تيار المستقبل الذي كان يبدي حرصا واضحا على رفع التعريف الطائفي عنه ويتبنى نزوعا ليبراليا واضحا، ويرى أن التوصيف الطائفي له وللسنة بشكل عام هو إهانة لهم، ومحاولة لتقزيم دورهم وحضورهم.
باتت هذه الليبرالية التي كان تيار المستقبل يتبناها مدخلا لانهيارات مزدوجة عندالطائفة السنية داخليا، وفي ما يتعلق بالتعامل مع الخارج، ونعني به الأطراف الأخرى في لبنان، والمحيط الإقليمي والدولي. الجمهور السني بات يرى نفسه، في ظل تغوّل كل الطوائف، يعاني من هجمات متتالية، تأكل من حضوره ودوره، وتهدد كيانه، خصوصا مع استمرار وجود سعد الحريري في الخارج، تحت وطأة تهديدات أمنية، لا يخفى على أحد أن الجهة المسؤولة عنها هي حزب الله.
غياب الهوية الطائفية عند المستقبل جعله طرفا مطالبا على الدوام برعاية مصالح الآخرين من الحلفاء، وغض النظر عن تغول الخصوم، لأنه لا مجال للرد الفعلي على ابتزازات الحلفاء، أو إرهاب الأعداء إلا بالركون إلى العنوان الطائفي حصرا. كان المستقبل يرى أن أي تنازل مهما كان كبيرا يبقى محتملا ما دام أقل من انحطاط التيار إلى مستوى التحول إلى تيار سني بحت.
ليس أدل على الحساسية المفرطة لتيار المستقبل من هذا العنوان أكثر من أنه طرد من صفوفه عددا من الصحافيين الذين لا شك في ولائهم له، وأقصى النائب خالد الضاهر من عضوية كتلة المستقبل النيابية، وذلك بسبب الإصرار على التعبير عن مواقف طائفية. هذا النزوع هو أبرز ما يميز تيار المستقبل عن جل المكونات السياسية، في البلد، وهو ما كان يسمح بتجاوز الكثير من أخطائه في الممارسة السياسية وفي إدارة الأمور. تيار المستقبل كان حاجة سعودية وخليجية، بل وعربية عامة، لأنه كان الطرف القادر على رسم صورة للمسلم المعتدل، المتصل بالعالم، والمتماهي مع صورته.
دعم تيار المستقبل سعوديا وخليجيا كان استثمارا في الصورة الضرورية لإعادة إنتاج العلاقة مع العالم، وكان هذا الاستثمار قد بدأ يعطي نتائج إيجابية واسعة وفعالة قطعها اغتيال الرئيس رفيق الحريري. مسار الأمور في لبنان المنطقة يمهد للقضاء على هذه التجربة، التي لا يمكن لنا سوى أن نصفها بالفريدة، على الرغم من كل ما شابها من خلل وأخطاء.
السؤال الذي لا يريد أحد الإجابة عليه إزاء كل ما يحدث في لبنان والمنطقة، هو ماذا لو قرر السنة أن يكونوا طائفة، مجرد طائفة؟ هل العالم كله، وليس لبنان أو المنطقة، قادر على تحمل النتائج المترتبة على مثل هذا التحول المرعب؟
العالم كله يدفع في هذا الاتجاه. حين يقول العالم للسوريين إن بشار الأسد هو قدركم الذي لا مفر منه، وحين يسمح بإبادة السنة في سوريا والعراق، ويتيح لحزب طائفي شيعي من قبيل حزب الله تهجير مناطق كاملة تمهيدا لإحداث تغيير ديمغرافي تكون الغلبة فيه للمكون الشيعي. حين يحدث كل هذا فإن لا مجال للسنة للرد سوى بالتحول إلى طائفة، تماهي العنوان الديني المقدس مع فكرة الانتقام، والرد على الإهانة.
داعش وحده من يحمل سمة الطائفة الآن في الوسط السني، بمعنى التماسك والربط المحكم للهوية الطائفية بفكرة الانتقام.
غارات الطائرات الروسية في سوريا، ومجازر الحشد الشعبي في العراق، تمنح التنظيم المتطرف قوة تفوق في صلابتها أي قوة يمكن أن تمنحها له سيطرته على مناطق واسعة جغرافيا. إنها تسمح له بالتحول إلى فكرة، والتاريخ يخبرنا أن الأفكار لا تموت.
يسخر الفيلسوفان الألمانيان هوكهايمر وأدورنو في كتابهما “جدل التنوير” من أصحاب الأفكار التي كانت تؤكد استحالة إقامة الفاشية في أوروبا، ويعتبران أن هؤلاء سهلوا المهمة للبرابرة، فقد كان هتلر، كما يؤكدان، عصيا على العقل ومعاديا للبشرية، إذ ثمة وجود لذهن معاد للإنسانية وهو ذهن يمتاز بتفوق حاذق.
هذا العقل المناهض للإنسانية هو الآن عقل العالم بامتياز، ولعل أخطر ما يمثله هو قدرته على تحويل ردود الأفعال على الظلم والإهانة إلى بنية تتماهى معه، وتؤكد انتصاره وهي البنية الطائفية.