ما حدث في مسجد الإمام علي بن أبي طالب في قرية القديح بمحافظة القطيف وجامع الحسين بن علي بحي العنود في الدمام، ليس مواجهة بين غلاة السنة ومعتدلي الشيعة كما تروج بعض وسائل الإعلام الصديقة والعدوة للملكة. ما حدث هو عمل إرهابي قام به مجرمون ضد مواطنين آمنين، هكذا يمكن أن نسمي الأشياء بمسمياتها: مجرمون في مواجهة مواطنين ونقطة على السطر. هم مجرمون ولا تنبغي تسميتهم بغير ذلك، فمثلما أننا لا نستطيع أن نقول إن المختلس والسارق وتاجر المخدرات يرتكبون جرائمهم لأنهم سنة أو شيعة أو مسيحيون، فنحن أيضاً لا يمكننا القول إن الداعشي يرتكب جريمته لأنه سُنّي مؤول. انحراف الفطرة السوية عند «مجرم الدنيا» كاللص أو المزور أو المرتشي أو من في حكمهم لا يعني أنه تبنى مذهباً اجتماعياً متشدداً ونظرة فاحصة جديدة للحياة، تبرران له الأعمال الإجرامية الدنيوية التي يقوم بها، بل هو مجرم «اختار» الإجرام الدنيوي كأسلوب حياة. وكذلك انحراف الفطرة السوية عند «مجرم الدين» كالمكفر والمُزندِق والقاتل باسم الله، لا يعني أنه مؤمن صادق خانه التعبير فافترى، ودفعته الحماسة فمارس أعمالاً ليست من الدين في شيء، بل هو مجرم «اختار» الإجرام الديني كأسلوب حياة. هؤلاء الداعشيون لهم أسلوب حياتهم الخاص المبني على الإجرام الديني، ما يجعلنا نرفض إلحاقهم بجماعة أهل السنة. فهم وإن كانوا سنّة ابتدائيين، إلا أنهم الآن خارجون عن الدائرة السنية باختيارهم. ومثلهم مجرمو عصائب أهل الحق وأبي الفضل العباس و«حزب الله» الذين اختاروا الإجرام الديني، فأخرجهم ذلك عن الدائرة الشيعية المسالمة. نرفض أن يكونوا منا، وهم في المقابل يعلنون على الأشهاد أننا لسنا منهم، ففي شرعتهم نحن المواطنون المؤمنون بمفهوم الدولة والوطن كفار مرتدون، وغني عن القول أنهم يكفرون الشيعة أيضاً لأنهم يتبعون معتقداً مغايراً. في الأسبوع الماضي استهدفوا مسجداً في القطيف، وهذا الأسبوع بغوا على مسجد في الدمام، وهم بهذه الأعمال التي تستهدف مقدسات الطائفة الشيعية في المملكة يريدون خلق حال ارتباك في علاقة المجتمع الشيعي بالسني من جهة، وعلاقة المجتمع الشيعي بالدولة من جهة أخرى. اختاروا مقدسات الشيعة ليس لأنها خاصة بالشيعة، بل لأنها تابعة للأقلية، وهم يعرفون أن رد الأقليات على استهدافها يكون في العادة مضاعفاً وذا حضور حاد، الأمر الذي ينعكس على استقرار الدولة ككل. مخططو «داعش» يعرفون أن استهداف مساجد السنّة (الكافرين في شرعة «داعش») لن يصنع التأثير المطلوب، كون السنة هي الأمة الغالبة في السعودية، والغالب عادة لا ينتقم من نفسه، أو من الأقليات التي تعيش في حماه! لذلك فالذهاب إلى مساجد الشيعة هو في الأساس عملية استراتيجية لا دينية. وقبل استهداف مساجد الأقلية الشيعية، قتل «داعش» عدداً من رجال الأمن في الرياض، من أجل إضعاف هيبة الدولة وإرباك أجهزتها الأمنية، وإظهارها بمظهر العاجز عن حماية «خط الحماية الأول» للمواطنين، الذين هم رجال الأمن. يختارون مقدسات الأقلية ورجال الأمن من الغالبية، كي يصنعوا وجوداً رمزياً لهم يتغذى على حال الخلاف والإرباك التي يمكن أن تخلفها هذه الاستراتيجية. هدفهم الأساسي تمزيق الدولة وسحق الوطن، ومن أجل هذا الهدف يصنعون أساليبهم الإجرامية، التي قد تتقاطع مع التراث والتاريخ مرة، والاحتقان الطائفي مرة، وحال الترصد والترقب بين الأقليات مرات ومرات! وعلينا إذا ما أردنا مواجهتهم ودرء خطرهم أن نعالج مشكلاتنا من الداخل ونبني حصوننا الثقافية والفكرية قبل الأمنية، لنتمكن من تجاوزهم في المستقبل القريب، لننظر في أمر الداخل قبل الالتفات لمصادر الخطر الخارجية. الكثير من المتابعين يقولون إن إيران قد تكون هي المخطط الرئيس لهذه الأعمال. هذا أمر وارد، لكن حال الراحة التي تغشانا بمجرد رمي التهمة خارجياً ليست حلاً، فالداعشي الانتحاري «المنفذ» الذي ارتضى أن يكون حطباً رخيصاً لمواجهة غير مكشوفة، يحمل موقفاً عقائدياً متضاداً مع الآيديولوجية الإيرانية، وليست له علاقة بالتأكيد مع المخطط الرئيس إذا ما افترضنا صحة نظرية التآمر الخارجي، وبالتالي هو خطر داخلي، تكوّن على مدى سنين طويلة، وكبر شيئاً فشيئاً مع مرور الأيام، حتى جاءت اللحظة المناسبة (الموجهة من الداخل أو الخارج لا فرق) فانفجر في وجه الوطن، مخلفاً جرحاً عميقاً. المخطِط الرئيس، لا يهمه إن كان الضحية شيعياً أم سنياً. المهم هو الهدف الكبير المتمثل في إسقاط هيبة الدولة، بينما الرقم الصغير المنفذ يذهب للموت طائعاً مختاراً لأنه سقط في المجال المغناطيسي للصراع السني - الشيعي، الذي ظل يتنامى ويكبر بسبب حرص كل من الفريقين على استدراج الآخر لحماه. هنا متطرفون وهناك متطرفون، هنا دعاة للفتنة وهناك دعاة للفتنة، ولا حل سوى العيش تحت مظلة مدنية تضمن لكلا الطرفين ممارسة عباداته وشعائره الدينية بالشكل الذي يعتقده، بعيداً عن الاحتكاك والمقارنة بين المذهبين. لنتوقف عن دعوات التقارب، ولنستبدلها بدعوات التعايش، فلكل شأنه. لنؤمن فعلاً بأن السنة من المريخ والشيعة من الزهرة، ونعيش سوياً بناءً على هذا الإيمان، ونرى كيف ستتغير الكثير من المسلمات في حياتنا. ستبقى السعودية صامدة، وستتجاوز بمشيئة الله هذا الاختبار، فلطالما وُضعت في مثل هذه الأوضاع في مناسبات كثيرة عبر تاريخها وتجاوزتها بعناية الله، لكن لتبقى هيبة الدولة حاضرة في كل الأوقات، ولنؤمن جميعاً بأنه لا يمكن لأي كائن كان القيام بدور الدولة الأمني خصوصاً في أية مناسبة، كما قال ولي العهد الأمير محمد بن نايف.