العرب - على هامش الهجمة الإيرانية على المملكة العربية السعودية، وهي هجمة تجدّدت وتصاعدت مع تنفيذ حكم الإعدام برجل الدين السعودي نمر باقر النمر، ثمّة نقاط عدّة تستأهل التوقّف عندها، خصوصا بعدما اعتبرت إيران نفسها مسؤولة عن كلّ شيعي موجود على الكرة الأرضية ومرجعية لهذا الشيعي. ربّما كانت النقطة الأولى التي يفترض التوقّف عندها، أن إيران نصّبت نفسها مسؤولة عن الشيعة العرب. الانتماء إلى إيران صار فوق الرابط القومي الذي يجمع بين العرب، وهذا ليس صحيحا بأيّ شكل. ليس صحيحا أن شيعة العراق من مسؤولية إيران وتحت وصايتها، كذلك شيعة البحرين. إيران تعتبر نفسها أيضا وصية على الحوثيين في اليمن الذين تحوّلوا من زيود إلى شيعة اثني عشريين وعلى شيعة لبنان، الذين صاروا في معظمهم رهينة لديها، وعلى شيعة السعودية وشيعة كلّ بلد خليجي.. وصولا إلى المجموعة الشيعية الجديدة في نيجيريا. تحدّث الأمين العام لـ”حزب الله” اللبناني السيد حسن نصرالله طويلا في خطاب حديث له عما يتعرّض له الشيعة في نيجيريا، وذلك بصفة كونه على رأس حزب مذهبي لبناني لا يرى عيبا في أن تكون مرجعيته في إيران ولا في المشاركة في الحرب وحملات التجويع التي يتعرّض لها الشعب السوري، وذلك من منطلق طائفي بحت. تتصرّف إيران من هذا المنطلق مستعينة قبل أيّ شيء آخر بغياب من يردعها ويقول لها أن كفى تعني كفى وأن الشيعة عموما والشيعة العرب خصوصا ليسوا تابعين لها وإن تراءى لها ذلك بين حين وآخر لأسباب مرتبطة بظروف معيّنة.
|
في نهاية المطاف هل يمكن لإيران أن تعود دولة طبيعية أم لا؟ هل علّة وجود النظام الإيراني قدرته على الاستثمار في الغرائز المذهبية من جهة ورفضه التعلّم من تجارب الماضي القريب من جهة أخرى؟مؤسف أن إيران ترفض الاعتراف بأنّ للتاريخ منطقا لا يمكن تجاوزه، مهما طال الزمن. في مرحلة معيّنة، حاول الاتحاد السوفياتي إقامة منظومة دولية خاصة به تضمّ الأحزاب الشيوعية في العالم. فشل في ذلك إلى حدّ كبير. لماذا تنجح إيران حيث فشل الاتحاد السوفياتي الذي كان وصيّا في مرحلة معيّنة على دول عدة، بما في ذلك اليمن الجنوبي وأثيوبيا وكوبا، فضلا عن دول أوروبا الشرقية التي كان يجمع بينها حلف عسكري اسمه حلف وارسو؟ لن ينجح الرابط الشيعي حيث فشل الرابط الشيوعي. منطق التاريخ يقول عكس ذلك، خصوصا أن الشيعة العرب يبقون عربا. مثلما انهار الاتحاد السوفياتي، ستنهار إيران. سينهار على الأصح هذا النظام الإيراني المرفوض أوّلا من الإيرانيين أنفسهم، مثلما كان الاتحاد السوفياتي مرفوضا من معظم الروس أوّلا ومن الشعوب التي كان يتألف منها البلد الذي شكّل طويلا القوة العظمى الثانية في العالم. من أهمّ النقاط التي يفترض بإيران ووكلائها التوقف عندها طبيعة المملكة العربية السعودية. لعلّ نقطة الضعف الأساسية في السياسة الإيرانية الجهل بالمملكة العربية السعودية. هناك جهل بكلّ شيء على علاقة بالمملكة من قريب أو بعيد، بما في ذلك العلاقة بين المواطن وآل سعود وبطبيعة العلاقة القائمة بين الأسرة الحاكمة ومختلف المناطق التي تتألّف منها المملكة.
الأهمّ من ذلك كلّه، هناك الجهل الإيراني بتاريخ المملكة العربية السعودية وكيفية صمودها في وجه كلّ العواصف، بل أعتى العواصف، التي ضربت الشرق الأوسط ومنطقة الخليج منذ الحرب العالمية الثانية. كان ذلك منذ ما قبل اللقاء المشهور في البحيرات المرّة الذي جمع على المدمّرة “كوينسي” في شباط ـ فبراير 1945 بين الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت والملك عبدالعزيز آل سعود. كان اللقاء اعترافا بالدور السعودي في المنطقة في وقت ثبّت عبدالعزيز حكمه ورسم بشكل شبه نهائي حدود المملكة. هذا الدور السعودي ليس ابن البارحة وليس مبنيا على الثروة النفطية للمملكة فقط. هناك سياسة سعودية تقليدية وضع أسسها عبدالعزيز معتمدا وسائل مختلفة بما في ذلك إقامة علاقات قربى ومصاهرة مع ممثلي قبائل وعشائر مهمّة في مناطق مختلفة. أثبتت التجارب التاريخية أن ليس في الإمكان الاستخفاف بالسعودية بأيّ شكل. كان هناك دائما قرار سعودي مستقلّ. ظهر ذلك إبّان مرحلة حلف بغداد منتصف الخمسينات من القرن الماضي. لم تمش المملكة في هذا الحلف، على الرغم من أنّ الغرب كان معه. في وقت لاحق ظهرت الاستقلالية في المواجهة مع جمال عبدالناصر الذي كان في مرحلة معيّنة يصنع ثورات ويزيل أنظمة. أقام الوحدة مع سوريا وأزال النظام الملكي في العراق في 1958 وأزال الإمامة في اليمن عام 1962.
لم يكن النظام الناصري مجرّد سلطة حكمت مصر. كان أكثر من ذلك بكثير على الصعيد الإقليمي. شملت سطوته لبنان الذي عاش ثورته الأولى في العام 1958 عندما أراد ناصر فرض وصايته على البلد وصولا إلى مرحلة استطاع فيها أن يذهب إلى تسوية ذهبت بكميل شمعون وجاءت بفؤاد شهاب رئيسا للجمهورية. واجهت السعودية جمال عبدالناصر وأخضعته في اليمن. وواجهت شاه إيران ثم تصالحت معه. وفي العام 1973، فرض الملك فيصل حظر النفط الذي كان تحديا مباشرا للولايات المتحدة والغرب أثناء الحرب التي خاضها العرب مع إسرائيل. هذا غيض من فيض الأدوار التي لعبتها السعودية التي عرفت كيف تتخذ موقفا متوازنا إلى حد كبير، ولكن بما يخدم المصلحة العربية، في أثناء الحرب العراقية ـ الإيرانية بين 1980 و1988 من دون أن تنسى لحظة أهمية المحافظة على أمنها وأمن الدول القريبة منها التي هي الدول الأعضاء في مجلس التعاون لدول الخليج العربية الذي قام في العام 1981 بمبادرة من الشيخ زايد بن سلطان وأمير دولة الكويت الشيخ جابر الأحمد، رحمهما الله. في كلّ وقت من الأوقات، لم تكن السعودية لاعبا هامشيا على الصعيد الإقليمي، خصوصا عندما ارتكب صدّام حسين مغامرته المجنونة وأقدم على احتلال الكويت صيف العام 1990.
لا يشكّ اثنان في أن إيران دولة كبيرة. ليس هناك بين العرب من يرفض الإقرار بذلك. ولكن يبقى ذلك شيء والاستسلام لإيران شيء آخر. يمكن مناقشة كلّ ما له علاقة بعقوبة الإعدام إلى ما لا نهاية. ما لا يمكن مناقشته هل الدولة السعودية حرّة في تنفيذ القوانين التي تراها مناسبة لها ولمواطنيها على أرضها. تخطئ إيران حين تعتقد أن في الإمكان الاستخفاف بالمملكة العربية السعودية التي واجهت كلّ ما واجهته منذ ما قبل الحرب العالمية الثانية، بما في ذلك المحاولات السوفياتية لتطويقها والتحرّش بها من جهات عدّة بسبب خوضها الحرب الباردة إلى جانب الولايات المتحدة. كثيرون جرّبوا حظّهم مع السعودية، التي لديها من دون شكّ مشاكل على الصعيد الداخلي بعضها عائد إلى التراخي مع الجماعات المتشددة والسماح لها بفرض برامج تربوية أنشأت أجيالا من أشباه الأمّيين الذين بقي يرمز إليهم، في مرحلة معيّنة، جهيمان العتيبي الذي حاول احتلال الحرم المكي في خريف العام 1979 في موازاة تمرّد في المنطقة الشرقية رعته إيران الخميني. كان الخميني وقتذاك في مرحلة إقامة نظامه في إيران وتثبيته.
هذا لا يعني أن القيادة السعودية، على رأسها سلمان بن عبدالعزيز، لا تعي هذا الواقع ولا تعي ضرورة الذهاب إلى النهاية في الحرب على التطرّف والإرهاب بكل أشكالهما الشيعية والسنّية والقيام بالإصلاحات المطلوبة من دون التغاضي عن التحديات الخارجية في مقدّمها التحدي الإيراني الذي يرتدي لبوسا مختلفة وينطلق من أماكن مختلفة بينها البحرين واليمن والعراق وسوريا.. ولبنان. لعلّ أفضل ما يعبّر عن النيّة في الإصلاح الحديث الذي أدلى به إلى “إيكونومست” وليّ وليّ العهد الأمير محمّد بن سلمان الذي كشف بما لا يدع مجالا للشك أن هذا الخط الإصلاحي لا عودة عنه في أيّ مجال من المجالات. نعم، كثيرون جرّبوا حظّهم مع السعودية. فشلوا في هزّ المملكة. الأكيد ان إيران الملالي لا ترغب في التعلّم من تجارب الآخرين. إنّها تدخل لعبة خاسرة سلفا، نظرا إلى أنّها تجرّب حظّها في مكان لا مجال فيه للعبة الحظ ولأيّ رهانات من هذا القبيل، بما في ذلك الرهان على أن معظم الشيعة العرب غيّروا جلدهم وصاروا إيرانيي الهوية، على غرار ما حصل مع “حزب الله” في لبنان…