الاتحاد - فرضت «هبّة ترويع الإسرائيليين» الفلسطينية، كما أحب أن أسميها، واقعاً جديداً لم يتوقعه أحد، في وقت ظن فيه الجميع أن الفوضى وتداعيات «الربيع» في العالم العربي، وحالة الانقسام الفلسطينية، قد أجهزتا على الروح الوطنية لدى الجيل الفلسطيني الجديد. فهذا الجيل قد خلق ما يمكن تسميته «حالة من الوحدة الشعبية» فاجأت الرأيين العام العربي والدولي على السواء، خاصة أن هذا الجيل في الوقت ذاته، يمارس الحياة وفق قناعاته وعلى النحو الذي يريد، فانطلق ساعياً لرفع الظلم مثبتاً أن الإرادة أكبر من سلاح المحتل الغاصب، مواجهاً إياه بأدوات وطرق جديدة للمقاومة. وكل من شاهد أو عاين عناصر «القيادة الجديدة» (من شباب وفتيات وأطفال) يعرف أنها «قيادة» تؤمن بعدالة قضيتها، وأنها أقوى من الاحتلال، حيث أن مكوناتها هم ممن لا يخافون الموت، وأن هبَّتهم أوسع من أي تنظيم أو فصيل أو حركة فلسطينية، فهي «قيادة» استخلصت الدرس بعد أن رأت أن القضية الفلسطينية تكاد تضيع.
ورغم مواصلة وسائل الإعلام الإسرائيلية التحريض ضد «الإرهاب الفلسطيني»، تظهر الإحصائيات تصميم الشباب الفلسطيني على استمرار «الهبّة» مهما كانت التضحيات. ويؤكد هذا الاستخلاص عدد الشهداء والمصابين والاعتقالات. وفي ذكرى مرور مائة يوم على انطلاق «الهبّة»، كتب المعلق العسكري «نداف سرغاي» يقول: «نحو 60% من الذين قاموا بهجمات في الضفة الغربية جاؤوا من منطقة الخليل. و75% من الذين قاموا بهجمات في إسرائيل جاؤوا من القدس الشرقية.. أغلب المهاجمين البروفيل لديهم واحد: أعزب، ليس لديه عمل منتظم، مهاجم وحيد، ماضيه نظيف، يعمل بصورة مستقلة، ليس تابعاً لأي تراتبية تنظيمية».
ووفقاً لـ«مركز المعلومات بشأن الاستخبارات والإرهاب» في «إسرائيل»، فإن أغلب من يقومون بهذه العمليات شباب أنهوا تعليمهم المتوسط ووجدت أغلبيتهم عملاً لا يتناسب مع مؤهلاتهم فانضموا إلى دائرة العاطلين عن العمل». واستناداً إلى تقرير أصدره مؤخرا المركز المذكور، فإن «وزن العامل الديني في قرار هؤلاء الشباب تنفيذ هجمات ليس مرتفعاً. ويظهر فحص الصور والمواد التي وضعها جزء من منفذي الهجمات على صفحات الفيسبوك أن معظمهم كانوا منفتحين على الحياة الحديثة، وكان نمط حياتهم علمانياً، وأن القليل منهم فقط كانوا متدينين أو عبَّروا عن مشاعر دينية، حيث ورثت وسائل التواصل الاجتماعي الدور الذي لعبه المسجد وكانت وظيفته مهمة في الانتفاضة الثانية بوصفه المكان الذي يؤثر في قرار القيام بتنفيذ هجمات».
وفي سياق آخر، نشر موقع «والاه» الإسرائيلي تقريراً وضعه المتخصص في الشؤون الفلسطينية «آفي سيسخاروف»، بالاعتماد على أرقام وإحصائيات الاعتقالات وعمليات القتل الميدانية، يرسم ملامح جديدة لشباب «الهبّة»، تُسقط مقولة سابقة قوامها تحول ساحات التواصل الاجتماعي الفلسطينية إلى ميادين لـ«التحريض». فالتقرير يظهر أن الغالبية العظمى من الشباب الفلسطينيين الذين قضوا في عمليات الإعدام الميدانية الممارسة من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي، هم شباب لا يتعاطون مع شبكات التواصل الاجتماعي، لافتقار بلداتهم ومخيماتهم إلى شبكة الكهرباء، وبالتالي أيضاً لشبكات الإنترنت والاتصالات الهاتفية. وبالتالي لم يتأثر هؤلاء المقاومون «بأشرطة التحريض» التي تحدثت عنها إسرائيل لأنهم لم يشاهدوها أصلاً. ويختم الكاتب قائلا: «على ضوء المعطيات المتوافرة من الصعب رسم ملامح بروفايل الشاب المقاوم. وهو عادة شاب في مقتبل العمر وعازب».
وفي دراسة قام بها جيش الاحتلال الإسرائيلي مؤخراً، أظهرت النتائج أن «الدافع الحقيقي وراء عمليات المقاومة الفلسطينية الفردية ليس التحريض، بل الانتقام». ونضيف من طرفنا: «الاقتداء بمن سبقوهم من الشهداء والأبطال». وهكذا، تسقط مقولة الحكومة الإسرائيلية والإعلام الصهيوني اللذين عزوا «الهبّة» إلى «التحريض».
وختاماً، يبدو أن هذا الشباب الفلسطيني، الذي فشلت معه كل حملات الترويض الأمني والفكري، أدرك تحول محاولات التسوية والسلام الاقتصادي إلى محاولات عابثة وعبثية. وهو شباب مقتنع بقدرته على استلام زمام الأمور، وطرح نفسه بديلا قوياً لإعادة توجيه البوصلة تجاه الاحتلال. كما أن هذا الجيل الشاب قد نجح في تحطيم الصورة النمطية السائدة منذ عام 2007 عن الشارع الفلسطيني والتي تحدثت عن حالة غيبوبة شعبية ذاهبة على درب موات بسبب جملة ظروف إسرائيلية (جوهرها الاحتلال الاستيطاني) وفلسطينية (جوهرها كارثة الانقسام الأيديولوجي والسياسي والجغرافي) وعربية إسلامية (في الصميم منها غياب أي مشروع نهضوي تحرري) ودولية (في أعماقها فقدان أخلاق الشرعية الدولية وسيادة ازدواجية المعايير.