الاتحاد - توفي الأستاذ محمد حسنين هيكل، وانطلقت التعليقات على سيرته وآثاره وأفكاره. وفي الواقع فإنّ تأثيره في السياسة المصرية الداخلية والخارجية انتهى في حدود عام 1975. بيد أنّ لقب «الأستاذ» هو اللقب الذي أعطاه إياهُ المصريون منذ عام 1980 (عندما أوقفه الرئيس السادات مع ألفٍ آخرين أو أكثر)، وظلَّ يحمله بموافقة الناصريين بداخل مصر وخارجها إلى حين وفاته، وربّما يبقى لفترةٍ أُخرى!
سِرُّ شهرة الأستاذ هيكل ثلاثة أمور: البراعة والمتابعة، والصحبة للرئيس جمال عبد الناصر، والعمل على نفسه منذ الثمانينات باعتباره ممثل المصالح المصرية والعربية. والواقع أنّ العامل الثاني يقع في قلب المعادلة التي نتحدث عنها، بحيث صارت ذكريات هيكل الكتابية والتلفزيونية عن ذلك العهد، بمثابة ذكريات للزمن العربي الجميل فقط، الذي أراد هكيل دائماً أن يتذكره الناس ليس لبعث الثقة وسط الترديات كما كان يقول، بل ولكي يُذكَرَ هو أولاً باعتبار حضوره، وآخِراً باعتباره حتّى من صُنّاع تلك المرحلة المجيدة من تاريخ العرب الحديث! ومن الذي يستطيع أن يُنكر عليه ذلك؟ فرجال ثورة يوليو ماتوا أو عجزوا، والقيادات الثانية من تلك الفترة كانت مرتبطةً به شهرةً أو مصلحة. ثم لماذا يواجهون هيكل- إن استطاعوا- ما دام الرجل يعمل دعايةً لبطلهم، يواجه بها السادات ومبارك اللذين كان الناصريون الكهول المنقسمون على أنفسهم، معارضين لهما!
عندما وقعت ثورة يوليو كان الضباط بحاجةٍ إلى أمثال هيكل. وقلتُ منذ البداية إنّ براعة هيكل هي التي جعلت عبد الناصر- إضافةً لتقارب السن – يختاره. ثم كانت المتابعة، بمعنى أنه دأب على تطوير خبراته وعلاقاته، بالداخل والخارج، بحيث لا تستغني عنه السلطة. وقد حاول أن يبيع الخبرة والعلاقات للسادات ومبارك، لكنّ الزمن كان قد تغير، وهو لم يتغير. لقد بقي وفياً لأحوال وترتيبات وتركيبات الستينات والحرب الباردة.
لا يزال هيكل حتى عام 2012 – آخر مرة سمعته في الموضوع، يتحدث عن العداء بين المملكة العربية السعودية ومصر أواسط الستينات، وكيف أنّ مصر صمدت في عدم الانحياز وأقامت علاقات ندية(!) مع الاتحاد السوفييتي، بينما كانت علاقات «الحلف الإسلامي» أقرب للولايات المتحدة. بينما نحن نعرف أنّ المملكة كانت تحضر مؤتمرات القمة بمصر منذ 1964، وتضامنت مع مصر عام 1967. وفي مؤتمر الخرطوم 1968 تصالح الملك فيصل مع عبد الناصر وأقاما جبهةً ضد إسرائيل (= لاصلح ولا اعتراف ولا سلام)، وحلاّ مشكلة اليمن معاً لمصلحة الجمهورية.
وفي عام 1973 تضامن فيصل مع مصر وقطع البترول عن الغرب. ومنذ ذلك الحين ما انفصمت علاقات المملكة مع مصر حتى سقوط مبارك عام 2011. ثم وبعد فترة «الإخوان» عادت علاقات المملكة مع مصر إلى أحسن مما كانت عليه. أما هيكل فقد انحاز دائماً لإيران ضد السعودية والخليج. وهو يحتج على ذلك بلحظة الثورة الأولى (1979) عندما كان الخميني يدعم الفلسطينيين، ثم أنّ «حزب الله» قاتل إسرائيل، لكنه لا يذكر أنّ إيران شاركت الولايات المتحدة وروسيا في تفكيك العراق وسوريا وأقامت «جمهورية» غزة خنجراً في خاصرة مصر. بل إنّ الأمن المصري قبض على جواسيس إيرانيين ومن «حزب الله» كانوا يتفقدون مواقع بحرية وأمنية لتفجيرها، ودائماً بحجة مكافحة العدو، وللاحتجاج على «استسلام» مصر لإسرائيل(!)
هذه المواقف طوال العقدين الماضيين ليس فيها غير ثابت واحد هو العداء للسعودية ودول الخليج، واستطراداً لسائر العرب الذي لا يعادون الخليج، وذلك باستثناء قطر وقناة «الجزيرة» بالطبع، إمّا لأنّ قطر كانت على خلاف مع السعودية، أو لأنه كان عنده برنامج على قناة «الجزيرة»! إنّ آراء الرجل الغريبة لا يلغيها موته، بل إنّ قنوات «المنار» و«الجزيرة» و«الميادين» وغيرها ما تزال تعرضها كل يوم. وهذا فضلاً على أنّ موقفه يشاركه فيه عتاولةٌ من القوميين العرب، فلنذكر هذا كلّه ولا ننساه. ورحم الله «الأستاذ»، ويبقى له جهده واجتهاده.