حين اندلعت الثورات العربيّة في عام 2011، لم تكن ترى صورة ولا شعارات غير تلك الحرية والانعتاق لكن تلك التحرّكات كانت تخفي ورائها عللًا وبشاعات مثل التحرش الجنسي اخطرها . وكما كانت المظاهرات في مصر في مقدمة الشهادات على هذا الواقع المرير تأكدت الظاهرة اكثر بتحرّشات بعض المهاجرين العرب في كولونيا بألمانيا عشيّة رأس السنة، والتي شكت منها نساء غربيّات، ذكّرت بما حدث في ساحة التحرير في أوج أيّام الثورة.
ويؤكد الكاتب كمال داود في هذا الاطار في مقال نشر في صحيفة النيويورك تايمز الامريكية أنه في حين رُبط بين التحرّشَيْن، تأكّد الغرب أنّ كبيرة البؤس في أجزاء واسعة من العالم العربي والإسلاميّ هي علاقته المرضيّة بالمرأة، فهي في بعض البلاد، تُحجّب وتُرجَم وتُقتَل وتُتّهم دومًا ببثّ الكيد والفتنة في "مجتمعهم المثاليّ " . للردّ على ما حدث، سارعت بعض الدول الأوروبيّة إلى إنتاج وتوزيع أدلّة حسن تصرّف على المهاجرين واللاجئين!
الجنسُ من المحرّمات المعقّدة (تابو) فهو في بلاد كالجزائر و تونس و سوريا و اليمن نتاج الثقافة الأبويّة المحافظة المحيطة بكلّ نواحي الحياة، فمنذ أن نالت هذه البلاد استقلالها والتشدّد الإسلاميّ والتزمّت المستتر أحيانًا الذي حملته الاشتراكيّات التي تحكّمت من الناحية الإيديولوجيّة والثقافيّة هي التي هيمنت. هذه المفاعيل العجيبة، كانت كفيلة بوأد الرغبات وتهميشها وإشعار صاحبها بالذنب. كم نحن بعيدون عن عصر ذهبيّ، أنتج ـ ـ الروض العاطر في نزهة الخاطر ـ ـ للشيخ النفزاوي، الذي تناول بلا حُجبٍ ولا عُقدٍ أعقد أمور النكاح وأطرفها.
التناقض هو سيّد الموقف في كثير من البلاد العربيّة حين يصلُ الأمرُ إلى موضوع الجنس المغيّب والمنكر رغم حضوره الصامت والطاغي. المرأة محجّبة بيد أنّها محوريّة في علاقاتنا وأحاديثنا. المرأة حاضرة في حديثنا اليوميّ كي نثبّت رجولتنا وشرفنا وقيمنا العائليّة، لا يُسمح لها في بعض البلدان الحضور في الحياة العامّة إلّا حين تتنازل عن جسدها. إن أُخلعت حجابها فهذا اعتراف يتمنّى الإسلاميّ والمحافظ والشابّ العاطل عن العمل نُكرانه. المرأة، صاحبة ـ ـ التنورة القصيرة المزلزلة ـ ـ خطرٌ، هذا ما يراه المجتمع ولا احترام لها إلّا في علاقة تملّكٍ، فهي زوجة فلان أو بنت فلان. هذه التوتّرات، تخلق تناقضات لا تُحتمل، فالرغبات مقموعة ولا حميم لاثنين يودّان العيش معًا لأنّهما يصيران حديث الجماعة، ممّا يُسفر عن بؤسٍ جنسيٍّ يؤدّي إلى عبثٍ وهستيريا.
في بلادنا أيضًا، كثيرون يتمنّون قصص حبٍّ، لكن معوّقات اللقاء كثيرة والغواية والملامسات ممنوعة والنساء مراقبات دومًا ويُسألن باستمرار عن عذريّتهن، كما أنّ شرطة الأخلاق صاحبة يدٍ عليا. هذا ويُدفع لبعض الجرّاحين مبالغ لا يستهان بها لرتق البكارات. الحروب التي تُشنّ في بعض بلاد الله ضدّ المرأة وضدّ كلّ راغبٍ بحياةٍ سويّةٍ تذكّر بمحاكم التفتيش. أيّام الصيف، تتألفّ زمرٌ عديدها شباب سلفيّون، تحمّسهم خطبُ إمامٍ راديكاليّ كلّفوا أنفسهم مراقبة أجساد نساء قرّرن السباحة بملابس البحر.
تجول شرطة الأخلاق في الحدائق العامّة وتحاول ترهيب الأحباب ولو كانوا متزوّجين، وتمنعهم من ارتيادها. حتّى إنّ المقاعد الخشبيّة تُقصّ أحيانًا كي لا يجلس عليها متحابّان. هذا المنع يُثمر خيالات من نمطيْن: البعض يحلمُ "بتفلّت" الغرب و "انحلاله"، والبعض الآخر بجنّة وحور عين…
هذان الخياران هما ما تقدّمه محطّاتُ التلفاز لمشاهديها في العالم الإسلاميّ: دعاةٌ متزمّتون ومطربات وراقصات لبنانيّات خضعن لمئات العمليّات التجميليّة، أجسادهنّ ليست بالمتناول وممارسة الجنس معهنّ من المستحيلات. على صعيد الملبس، هذا التناقض الصارخ يتحوّل إمّا إلى برقعٍ كامل أو إلى "الحجاب المتبرّج" الذي يقرن بين حجابٍ ملوّنٍ وبنطال جينز مثير. شواطىء بلادنا بين بوركيني وبيكيني… نادرون هم الأطبّاء المتخصّصون بالشؤون الجنسيّة في البلاد الإسلاميّة، أمّا نصائحهم فنادرًا ما تُؤخذ بعين الاعتبار.
لذا، يحتكر الإسلاميّون خطاب الجسد والجنس والحبّ. ما من شابٍّ عربيٍّ أو مسلمٍ لم يكتشف بعد دهاليز الإنترنت وتعدّد المحطّات التلفزيونيّة الفقهيّة. سيلٌ من المحطّات والمواقع بلغ زبى البورنوغرافيّة الإسلاميّة. بعض الدعاة يطلقون فتاوى مشوّهة من مثل: أنّه حرام على المسلم أن يمارس الجنس عاريًا، وأنّه يُمنع منعًا باتًّا على النساء لمس فاكهة الموز، وبحكم فتوى "إرضاع الكبير" لا يحقّ لرجلٍ الاختلاء مع زميلة له، ما لم تكن قد أرضعته من حليبها.
الجنسُ سيّد وهو في كلّ مكان وزمان وتحديدًا بعد الموت. لا نشوة خارج الرباط الزوجيّ الخاضع لجملة من الفتاوى الدينيّة. هذه نشوة خاليةٌ من الرغبة. لا نشوة إلّا بعد الموت. فالجنّة المأهولة بحور العين هي من مواضيع الدعاة الأثيرة، فلذّة ما وراء القبر هو ما سيكافأ به سكّان بلاد البؤس الجنسيّ. هذا ما يحلم به الانتحاريّ الخاضع لمنطق سورياليّ رهيب: النشوة قرينة الموت لا الحبّ.
إرتاح الغربُ وهو يتخيّلُ شرقه الاستشراقيّ، شرقٌ قرينٌ للغرب، فالاستشراق بوّابةُ أحلام واختلافات ثقافيّة، هنا شهرزاد، هنا الحريم، هنا هزّ خصرٍ… هذه اللطائف حالت، لا بل حجبت الأسئلة المتعلّقة بحقوق المرأة في العالم الإسلاميّ وها هو الموضوع يظهر اليوم في أوروبا مع وصول المهاجرين الشرق أوسطيّين والأفارقة الحاملين معهم أمراض وبؤس بلادهم الجنسيّ. ما بدا بالأمس البعيد مشهدًا ظريفًا لبلاد بواحات وجِمال وحور عين، يستحيل اليوم مواجهة ثقافيّة على أرض الغرب. فروقات الأمس، تلك التي بدت مدجّنة بسبب المسافات والشعور بالتفوّق قد تحوّلت اليوم إلى تهديد مباشر يكتشفُه الجمهور الغربيّ بخوف وتململٍ، فالجنس مريضٌ في العالم العربيّ و ها قد انتقلت العدوى إلى أرض اللجوء.