الحياة - لم يكن مُستغرباً لدى جمهور العرب أن تكون الإمارات، الدولة التي يطلب رئيس حكومتها من الجامعات ترشيح بعض الذين تخرجوا فيها حديثاً من أجل تعيينهم في منصب وزاري. ولم يكن مُستغرباً لدى هذا الجمهور أن تصدر عن الإمارات مبادرة بحجم تعيين وزير للتسامح ووزير للسعادة، فلطالما ارتبطت الإمارات في وجدان العرب بهذين المفهومين، وأصبحت مهوى أفئدة الراغبين في الحياة الكريمة والآمنة، وقبلة المتطلعين إلى نموذج عربي مستقل وناجح في ظل الإحباط واليأس الذي ألقى بظلاله على أجزاء واسعة من الوطن العربي الكبير.
ولم يكن مستغرباً أن تكون الإمارات الدولة التي تحتل مقعد الوزارة فيها شابة لم تتجاوز الـ22 من عمرها، بناء على تأهيل أكاديمي رفيع وإنجازات علمية وشخصية تعد بالكثير. لم يكن ما سبق مُستغرباً، حيث تتسق هذه الاختراقات الكبرى مع خطوات سابقة على الطريق نفسه، تجعل الإمارات البيئة الأكثر ملاءمة لذلك النوع من التفكير والعمل.
لم تنشأ هذه الصورة للإمارات من فراغ، بل تعود إلى رصيد كبير في مجال الخيال السياسي المبدع والخلاق، وتحويل الأفكار إلى واقع على الأرض، وهو رصيد راكمته الإمارات عبر إنجاز يتلوه إنجاز، وسبق يعقبه سبق، وتفوق إثر تفوق، حتى أصبحت ترتبط في العالم العربي وخارجه بإنتاج أفكار تجمع بين الإيجابية والابتكار، وتنفيذها بنجاح واقتدار.
في مجال الفكر السياسي والإداري، بقي العرب ومعظم دول العالم أسرى نمط واحد من التفكير، ونماذج للحكومات بدا لمن لا يملك قدرات الإبداع والابتكار والخيال السياسي أنها لا تقبل تغييراً أو تبديلاً، وأن أي إضافة هي أقرب إلى الخروج على نواميس كونية ثابتة، لكن قيادة الإمارات كان لها كلمة أخرى.
ببساطة، لا تستنسخ الإمارات تجارب الآخرين، ولا تكتفي بالوصول بالممارسات المعتادة إلى أعلى مستويات الإجادة في التطبيق، بل إن لديها ما تقدمه للعالم من جديد، يجعل إنسانية الإنسان عاملاً أكثر حضوراً في أولويات الحكومات، وتُعلي من شأن الجانب المعنوي، وليس مجرد حاجات مادية.
تستمد هذه المبادرة أصولها الفكرية من عمق التراث العربي والإسلامي، حيث التوازن بين الحاجات المادية والروحية، في مقابل غلبة النزعة المادية لدى العالم الغربي. ولذا فإن تخصيص وزارة للسعادة وأخرى للتسامح ليس إلا اتصالاً خلاقاً بالبعد الروحي في الحضارة الإسلامية، وتطعيماً للنموذج الغربي بأكثر ما يفتقر إليه، من دون تقليل شأن ما أنجزه هذا النموذج أو إنكار نجاحه.
واللجوء إلى ترشيح الجامعات شبابها لشغل منصب الوزارة هو أحد تجليات تطوير مفهوم المشاركة، وتفعيل صور جديدة لمبدأ الشورى، بما يكشف عن تعدد قنوات مشاركة الشعوب ومؤسساتها في اتخاذ القرار، والقدرة على إبداع أشكال جديدة لجعل الحكومة معبرة عن المجتمع كلاً. إنه توسيع لمفهوم الديموقراطية، بما يحقق أقصى منافعها مع مراعاة طبيعته المجتمع وطريقته في تصعيد مسؤولية الذين يقودون مسيرته نحو الرخاء والازدهار.
السعادة والتسامح مقياسان جديدان سيكونان حاضرين في كل خطط الحكومة وخطواتها وسياساتها وقراراتها وإجراءاتها، ليصبحا شيئاً فشيئاً جزءاً من أي منظومة للفكر والعمل في الإمارات في كل المجالات، وسوف توضع القواعد والأسس التي تضمن انتقالهما من عالم التجريد، الذي لا يزال مهيمناً عليهما، إلى عالم التطبيق وفق معادلات وحسابات تضمن أن يكونا قابلين للقياس، شأنهما شأن كل العناصر التي يجب أن نكون قادرين على حساب مستوى تحققها رقمياً، ولو بدا ذلك صعباً الآن.
الخطوة الإماراتية ستفتح الطريق أمام المختصين في علوم إنسانية شتى للاضطلاع بهذه المهمة النبيلة، وفتح المجال أمام تطبيقها في دول ومجتمعات أخرى تستفيد من الريادة الإماراتية على مستوى الفكرة والتنفيذ، وهو ما سيُنسَب في النهاية إلى العقلية العربية، ويزيل عن صورتها أمام العالم بعض ما علق بها من شوائب وسلبيات.
هذا الأداء السياسي الراقي، هو الأقدر على علاج مشكلة التطرف التي تجتاح العالم العربي بلهيبها المحرق، فقد كان الإحباط وغياب الأفق أو غياب «المشروع» هو البيئة الحاضنة للتطرف. والإحباط ليس مجرد إحباط اقتصادي أو ظروف معيشية صعبة كما قد يتبادر إلى الذهن، لأن دولاً عربية وإسلامية توافر لمواطنيها مستوى معيشة عالٍ لم تنجُ من انتشار التطرف فيها، بل يعود جزء من الإحباط إلى شعور الضعف والهزيمة الذي يستبد بنفوس الشباب من منطلق حضاري، وتتغذى على هذا الشعور مشاعر الكراهية تجاه المجتمع وتجاه العالم كلاً، والرغبة في تعويض إحساس التصاغر من طريق الانتقام الأعمى. ومن هنا تبدأ الكارثة التي يتلقفها تجار الدين وسماسرة الموت.
إن «المشروع» الإماراتي الذي يرسخ ثقة الشباب في مجتمعهم وقيمهم وموقعهم من العالم، وإيمانهم بأن لديهم ما يقدمونه للإنسانية، وأن الأفق مفتوح والفرص متاحة لإثبات الذات والمشاركة في تجربة النجاح من دون عوائق أو مثبطات، هو ما يعصم شباب الإمارات من وباء التطرف، ويجعلهم سداً منيعاً أمام تسلله إلى بلدهم الذي يحرصون على أمنه وسلامه.
هذا هو «الربيع» العربي الحقيقي الذي يمكن العرب من خلاله أن يطمحوا إلى مستقبل أفضل، ويخرجوا من المأزق الذي تتعدد صوره، حضارياً وفكرياً وسياسياً واقتصادياً وعلمياً وتكنولوجياً، وهذا هو ما ينبغي أن يُبشر به المفكرون والمثقفون والنخب السياسية والاقتصادية، لأن مكاسبه سوف يتقاسمها الجميع من دون استثناء. ولعل السنوات السابقة أثبتت أن التطور والتنمية والرخاء محطات لا يتم الوصول إليها عبر طريق الصراع والعنف وخلخلة أركان الدول، وأن على الشعوب العربية أن تتحسب لمواقع خطواتها، حتى لا يستغل المتربصون طموحاتها المشروعة لتنفيذ مخططاتهم على النحو الذي رأيناه.
إن وزارة السعادة ووزارة التسامح والوزيرة التي غادرت قبل عامين فقط عقدها الثاني، هي تتويج لخطوات سابقة ثابتة كانت تتوالى طوال السنوات الماضية، وهذه الخطوات السابقة تستند أيضاً إلى رؤية ثابتة للإمارات منذ قيامها، وضعها المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، وهي تعتبر الإنسان محور تركيزها واهتمامها، وتوفير كل سبل الحياة الكريمة واللائقة له، ويمكن لمن يتأمل في أقوال المؤسس الكبير أن يلمس حضور مفاهيم مثل السعادة والتسامح وتمكين الشباب في كلماته الملهمة، وجاء أبناء زايد ليحولوها في الوقت المناسب واقعاً على الأرض، وبرامج عمل يُنتظر لخيرها أن يعم الجميع.
الخطوة الحالية ليست إلا امتداداً لخطوات رائدة تتوالى من دون توقف، حيث تقود المجلس الوطني الاتحادي باقتدار امرأة يحــفل تاريخها بالعطاء، وهي تجربة باتت ملهمة للإماراتيين جميعاً، وهذا ما تجلى في اختيار سيدة لتترأس المجــلس الاستشاري في الشارقة، وحيث المكتبات المليونية هدف تُحشد الجهود لأجله، وحيث تصدُّر المراكز الأولى أو منافسة دول العالم الكبرى في المؤشرات العالمية يصبح أمراً معتاداً، وحيث المعرفة هي أساس الثروة، ومد اليد بالمـــساعدة والخير للمحتاجين إليها على اختلاف ألسنتهم وألوانهم وعقائدهم، وحيث الخلوات الوزارية تعيد تعريف طبيعة العمل الحكومي وأدواته. وعلى رغم أن الناس أصبحوا يتوقعون خطوات عملاقة من الإمارات، فإن ما يحدث بالفعل يحلق عالياً فوق كل ما توقعوه.