العرب - في منتصف شهر فبراير عام 1947، بدأت إذاعة صوت أميركا البث إلى الاتحاد السوفييتي (آنذاك) لتكون جزءا من حملة الدعاية الأميركية ضد الروس أثناء الحرب الباردة. بعد سبعين عاما، لم يتغير الوضع كثيرا بين القطبين الأكثر تأثيرا في أحداث العالم. مازالت “نوبات” الصراع والتوتر والتنافس تطل بكثافة على العالم، برغم الندية التي ظهرت بين القوتين العظميين خلال التحالفات العسكرية وتطوير الأسلحة والتقدم الصناعي والتكنولوجي والتسابق الفضائي. النتيجة كانت للأسف الإنفاق الكبير والمتزايد على الدفاع العسكري والترسانات النووية وحروب غير مباشرة معظمها باستخدام (مقاول بالباطن) أو ما يسمى في السياسة الوسيط.
التنافس الروسي الأميركي في منطقة الشرق الأوسط جاء واضحا في محاولة كل من القطبين بسط نفوذه والهيمنة على الشؤون الداخلية لمناطق استراتيجية في أماكن الأزمات، مثل أزمة السويس وانهيار حائط برلين واندثار النظام الشيوعي في جنوب اليمن. أما في العصر الحالي، فلا يزال التدخل العسكري الروسي المستغرب في سوريا يثير جدلاً واسعاً في الأوساط الإقليمية والدولية. الأكثر استغراباً هو نشر موسكو صواريخ متطورة وأسلحة ثقيلة في أرجاء سوريا. لعلي أطرح أربع فرضيات وراء تعزيز موسكو لقوتها العسكرية في أرض الشام.
الفرضية الأولى أن الفرصة متاحة اليوم للرئيس فلاديمير بوتين أكثر من أي وقت مضى ليلعب دور “القوة العظمى” على المستوى الدولي. كلنا نتذكر كيف تم إجبار الاتحاد السوفييتي على الخروج من الشرق الأوسط في حرب أكتوبر 1973. هاهي موسكو تعود وبقوة إلى المنطقة في أفضل ظرفين ممكنين؛ اتفاق القوى الكبرى مع طهران، وتراجع دور الكاوبوي الأميركي في المنطقة.
الفرضية الثانية وراء التعزيز العسكري الروسي في سوريا يؤكد على عزم موسكو الاستمرار في دعم النظام السوري. لماذا؟ لأن بشار الأسد حافظ على الوجود البحري الروسي في شرقي البحر المتوسط من خلال القاعدة العسكرية الروسية في اللاذقية. مازالت روسيا تبكي على الحليب المسكوب، لأن تفكيك الاتحاد السوفييتي السابق، وبالتالي عزل روسيا بسبب الوضع في أوكرانيا كان بالنسبة للكرملين أمرا مهينا، وحان وقت الانتقام.
الفرضية الثالثة وراء تواجد القوات الروسية في سوريا هي ملاحقة “الإسلاميين” القادمين (أو العائدين) إلى الشرق الأوسط من دول البلقان، وهذه ربما فرضية هلامية وغير مكتملة الأركان. الفرضية الرابعة والأكيدة هي عين موسكو على مواطن الغاز المكتشفة في البحر الأبيض المتوسط على الساحل السوري، وخاصة مع تنافس موسكو وأنقرة على احتكار خط الغاز لأوروبا. كل هذه الفرضيات تقع تحت مظلة واحدة وهي أن بوتين يرى أن بإمكانه استعادة أمجاد الإمبراطورية الروسية وذلك من خلال تقويض الدور الأميركي. لم تكتفِ موسكو بتأكيد وجودها العسكري في سوريا، بل عقدت مع مصر اتفاقا نوويا بجانب صفقة أسلحة روسية (عليها الإيمة). كل هذا تم في ظل غياب (وربما تراجع) الدور الأميركي في المنطقة. هذا يعني عودة موسكو إلى مصر للمرة الأولى منذ عهد جمال عبدالناصر، أي منذ أكثر من أربعة عقود.
ماهي معطيات المستقبل القريب؟ بغض النظر عما صرح به ديمتري ميدفيديف، رئيس الوزراء الروسي، هذا الأسبوع، موسكو عازمة على البقاء في المنطقة فترة طويلة. هذه ليست زيارة عابرة، موسكو تخطط لبناء منشأتين نوويتين للأسد في سوريا. هذه الأحداث لم تبدأ البارحة، فقد نشرت صحيفة “فاينانشال تايمز” البريطانية تقريرا في سبتمبر الماضي توقعت فيه خطة الرئيس فلاديمير بوتين لتغيير موازين القوى في الشرق الأوسط، مرغمين بذلك القوى الغربية ليست فقط الإقليمية على أخذ رأيها بعين الاعتبار.