الرياض - لا يمكن أن يتغافل أحد عن طرح الأسئلة المهمة حول المنطقة وكيفية الآثار التي سوف تنتجها الحالة السياسية على الأقل خلال العقد القادم، وقد تكون مؤشرات ذلك الإنتاج قد بدأت بالفعل، فالنشاط السياسي الكبير في منطقة الشرق الأوسط ابتداء من السابع عشر من شهر ديسمبر من العام 2010م عندما انطلقت الثورة في تونس، وحتى هذه اللحظات، فما شهده العالم العربي تحديداً يمكن وضعه في منظومة من الأحداث ساهمت في إنتاج بعضها البعض فالثورات العربية أنتجت الكثير من الصور أو لنقل ساهمت في تسريع إنتاج صور كثيرة للشعوب العربية.
هل يمكن القول ان الأحداث السياسية ساهمت في تحرير الكثير من الشعوب العربية من الوعى الخاطئ حول قضايا كثيرة.؟، هذه الفرضية تستدعي رؤية محددة نحو الصورة الكبرى التي أنتجتها الثورات العربية وما آلت إليه الآن، في العالم العربي وخلال السنوات الست الماضية سهل على الجميع معرفة العمق الذي تمتعت به بعض السلطات السياسية في العالم العربي من حيث علاقتها بالعمق الاجتماعي في دولها وقدرتها على إدارة تلك العلاقة لصالح استقراراها وظهر ذلك جلياً في الدول الأكثر استقراراً من حيث الاقتصاد والأنظمة السياسية.
النمط القادم للتفكير بين شعوب العالم العربي سيكون مختلفاً من حيث الأسلوب وخاصة أثناء العشر سنوات القادمة، وهذا يتطلب تغييراً من قبل الأنظمة السياسية بهدف استيعاب تلك التحولات الشعبية وعدم مواجهتها بالنمطية التاريخية وخاصة في كيفية إدارة تلك الشعوب سياسياً.
هذا الصراع الذي نشاهدة اليوم في الدول العربية سوف ينتج الكثير من التحولات ذات الصيغ الفكرية من حيث إدارة الثورات المتبقية وكيفية التعاطي مع آثارها الملزمة سياسياً، كما في مصر وليبيا واليمن والعراق وسورية، بجانب الأزمة الطائفية التي تظهر ملامحها في العلاقة العربية الإيرانية، وكذلك الصراع العرقي الذي أنتجته الأزمات السياسية في المنطقة كنتيجة طبيعية للهدم المتعمد للبناء السياسي العربي الذي أحدثه ما يسمى بالربيع العربي، حيث ساهمت ظاهرة الربيع العربي بفعل مخطط في تعبئة البنية الاجتماعية وشبكاتها ذات الصيغ الدينية من أجل حيازة السلطة السياسية، وهذا ما حدث في مصر وحدث في تونس ويحدث في ليبيا وسورية والعراق، مع اختلاف طفيف في نوعية المذهب أو الصيغة التي تستخدم في ذلك.
الظهور الكثيف للأفكار الدينية السياسية كما حدث مع جماعة الإخوان المسملين على سبيل المثال، إنما عكس صورة واحدة لم يكن العالم العربي يتوقع ظهورها بهذه الكثافة، فقد كانت الشعوب العربية التي ترزح معظم دولها على ثروات طبيعية في باطن الأرض، مختلفة تماما في صيغتها الاجتماعية، فقد عكست نمطاً سياسياً مفاجئاً لا يتناسب مع كمية الثروة التي كان من المفترض أن تذهب بها إلى مستوى حضاري وحداثي أبعد، وقد بدا ذلك واضحاً في دول الخليج تحديداً التي فوجئت بالكثير من المؤيدين للنمطية التي ظهرت بها جماعة الإخوان في مصر أو تونس أو ليبيا، وأصبح الحراك الاجتماعي وبشكل مستغرب متمسكاً بالتاريخ وسرعان ما تحولت فكرة الأمة والخلافة إلى ظاهرة اجتماعية تم تداولها بشكل كبير في وسائل التواصل الاجتماعي.
إن هذا الظهور الكبير للحركات المنتمية إلى الإسلام السياسي وقدرتها على كسب الشعوب العربية بهذه الطريقة يطرح أسئلة صارمة حول تلك الآثار التي لم تتركها القدرات السياسية التي سادت العالم العربي، لقد كان من الواضح الجلي أن الشعوب العربية بدت في كثير من الدول وخصوصاً دول الثورات العربية انها كانت تعاني من انفصال مقصود بينها وبين السياسة حيث عمدت قيادات عربية تعرضت للثورات في دولها إلى ترك تلك الجماعات للعمل كبديل عنها في الواقع الاجتماعي.
على الجانب الآخر تشعر الشعوب العربية التي نجت من الثورات انها لازالت تحت حماية دول قادرة على المواجهة في سبيل تحقيق الأمن للشعوب، لذلك فإن ظهور فكرة الاتحادات العربية والإسلامية ذات الصيغة العسكرية كما ظهر في اليمن ويظهر اليوم في محاربة داعش في سورية، كل هذه المظاهر عكست ثقة معنوية لدى جزء من الشعوب العربية التي ساهمت دولها في تلك الاتحادات العسكرية.
هذه الصور لا تكفي لتوقع الأثر القادم الذي يمكن أن يحدث ويسهم في تحول هذه الشعوب، فهل فعلياً أن الشعوب العربية سوف تتحول نمطياً وفق قواعد سياسية واقعية تفرضها النتائج التي سوف يصل إليها العالم العربي بعد سنوات..؟ العالم العربي يقع ضمن فرضيات كثيرة منها تقسيم بعض الدول العربية، ومنها مواجهة طائفية تقوم على أساس المذهب، ومنها تقسيمات داخل المذهب ذاته، بحيث تتحول المذاهب الرئيسة في الإسلام إلى أشكال عنقودية تتصارع فيما بينها في مساحات جغرافية شاسعة في العالم العربي.
الشعوب العربية والسياسة العربية تمر عبر نفق التحولات فالجميع دخل النفق منذ العام 2010م، لذلك لا يمكن التوقع إذا ما كان من سيخرج من ذلك النفق كما هو أم سوف تتغير ملامحه، ولكن المؤكد أن الجميع قد دخل إلى نفق التحولات السياسية فالعالم العربي بكل دولة وتشكيلاته وبمشاركة الغرب ودول إسلامية ليست عربية كلهم جميعاً اليوم وبمرافقة الشعوب العربية بفكرها ونظرياتها بجانب بعض من الجيوش الغربية وسياساتها في المنطقة، نظرياً سوف تتمكن الشعوب العربية القوية اقتصادياً وسياسياً من الخروج من النفق بأقل الخسائر كما أن دولاً غربية مثل روسيا وأميركا أيضا سوف تتعرض لكميات لا يمكن تجاهلها من الخسائر في هذه المرحلة، لذلك فإن شعوب المنطقة سوف تتعرض للكثير من التحولات والإشعاعات الفكرية والنظرية.
الصيغه النهائية للقوى العربية سوف تتغير بشكل جذري ومن المتوقع أن تقود دول الخليج العالم العربي وترسم مساراته السياسية القادمة وهذا سوف يحدث خلال السنوات القادمة، وهذا سوف يمنح هذه الدول وشعوبها فرصة أكبر لإحداث تحولات تنموية تجعلها في المقدمة، كما انه من الآثار المحتملة أن يكون هناك تراجع كبير في نمطية التعاطي مع التيارات الإسلامية وخاصة الإسلام السياسي، وهذا سوف يؤدي وبشكل كبير إلى إحداث ثورة تنموية وخاصة في التعليم والصحة وسوف تتزايد مطالب الشعوب فكرياً نحو عقلنة المجتمعات وذلك انعكاس للتجربة التي مرت بها الشعوب العربية عبر الثورات العربية والتي أثبتت أن الإسلام السياسي لن يشكل حلولاً تنموية قادرة على إحداث نقلات تنموية لتلك الشعوب.