العرب - عندما يسمح الاتفاق بالاستمرار في شنّ الهجمات على “داعش” و”النصرة”، متجاهلا النظام الذي يذبح شعبه والميليشيات المذهبية اللبنانية والعراقية والأفغانية والخبراء الإيرانيين، معنى ذلك بكلّ بساطة أنّ الإدارة الأميركية قرّرت السماح لروسيا وإيران والميليشيات التابعة للنظام بمتابعة هجماتها على السوريين.
فمن يعرف ولو قليل القليل عن الوضع السوري، يعرف أوّلا أنّ روسيا وإيران وقوّات النظام لم تهاجم “داعش” يوما. على العكس من ذلك، هناك تواطؤ دائم بين “داعش” من جهة وكلّ من روسيا والنظام وإيران وما لديهما من ميليشيات مذهبية من جهة أخرى. مفهوم الموقف الروسي. هناك رغبة في المساومة على رأس بشّار الأسد، في نهاية المطاف، من أجل قبض ثمن معروف مرتبط أساسا بمنع مرور الغاز الخليجي في الأراضي السورية وتحقيق مآرب أخرى.
مفهوم أيضا الموقف الإيراني الذي يعتبر سوريا في غاية الأهمّية بالنسبة إلى المشروع التوسّعي الذي ينادي به كبار المسؤولين في إيران، وعلى رأسهم “المرشد” علي خامنئي.
بالنسبة إلى إيران، لا خيار آخر سوى الدفاع عن النظام العلوي القائم في سوريا، كونه ضمانه لأن تكون سوريا جسرا إلى لبنان وإلى “حزب الله” بالتحديد. إلى إشعار آخر، يشكّل “حزب الله” الذي وضع يده على مفاصل الدولة اللبنانية الاستثمار الأهمّ لإيران منذ العام 1982، تاريخ تأسيس الحزب الذي ليس سوى لواء في “الحرس الثوري” الإيراني، عناصره لبنانية. تحوّل هذا الحزب إلى أفضل أداة إيرانية توظّف في خدمة مشروع يستهدف مناطق عربية عدّة من لبنان والعراق، إلى اليمن، مرورا بالبحرين، على سبيل المثال وليس الحصر.
ما ليس مفهوما هو تلك السذاجة الأميركية التي قد لا تكون سذاجة بمقدار ما أنّها سياسة واضحة تقوم على ترك المنطقة لروسيا وإيران، غير مدركة أنّه لا يمكن شطب العرب بتلك السهولة من المعادلة الإقليمية، إضافة إلى أنّه لا يمكن البحث في مستقبل سوريا من دون مقعد تركي إلى طاولة المفاوضات.
لا يمكن تجاهل العرب بأيّ شكل عند البحث في المستقبل السوري، كما لا يمكن تجاوز تركيا والاكتفاء بإلهائها بالورقة الكردية عن طريق تجييش قسم من الأكراد ضدّها.
ما الذي تريده الإدارة الأميركية؟ لا وجود لجواب واضح إلى اليوم باستثناء أن باراك أوباما يبدو مصرّا على تفتيت سوريا. فالاتفاق الأميركي ـ الروسي الذي أعلن عنه أخيرا ليس سوى وسيلة لضمان استمرار الحرب التي يتعرّض لها الشعب السوري إلى ما لا نهاية. لو لم يكن الأمر كذلك، لما ميّزت واشنطن بين إرهابيّ وإرهابيّ آخر ولما اختزلت أصلا كلّ ملفات الشرق الأوسط وأزماته بالملفّ النووي الإيراني، ولما تغاضت عن التدخل العسكري الروسي الذي لا هدف له سوى ابقاء نظام انتهى منذ سنوات عدة في الواجهة تمهيدا لليوم الذي يستخدم فيه بشّار الأسد ورقة في لعبة باتت تتجاوز حدود سوريا.
من الآن إلى حين انتهاء ولاية باراك أوباما، بعد نحو عشرة أشهر، لا يمكن توقّع شيء من الجانب الأميركي باستثناء التظاهر بأنّ هناك تحرّكا من أجل احتواء الأزمة السورية بدل وضع حدّ لها. مثل هذا التحرّك يصبّ في اتجاه واحد يتمثّل في الانتهاء من سوريا التي عرفناها عبر تحويلها مناطق نفوذ لثلاثة أطراف على الأقلّ هي روسيا وإيران وتركيا، وذلك بالتفاهم مع إسرائيل طبعا.
ليس بعيدا اليوم الذي ستجد فيه تركيا نفسها مضطرة إلى التدخّل المباشر، أو غير المباشر، لضمان منطقة نفوذ لها في الشمال السوري. لا تستطيع تركيا ترك الأكراد يتحرّكون في تلك المنطقة مستفيدين من التدخل العسكري الروسي. مثل هذا التحرّك الكردي يشكّل تهديدا مباشرا للأمن التركي. سيكون مستقبل رجب طيّب أردوغان وحزبه مطروحا في حال بقي الوضع على ما هو عليه في الشمال السوري.
منذ تناسى باراك أوباما في آب ـ أغسطس من العام 2013 أن هناك خطّا أحمر رسمه للنظام السوري وتغاضى عن لجوء النظام إلى السلاح الكيميائي، حصلت نقطة تحوّل. قبل أوباما في الواقع تسليم سوريا إلى روسيا وإيران. استمع إلى ما قال له فلاديمير بوتين وقبل الاكتفاء بأن يتخلى النظام عن الكمية الباقية من مخزونه الكيميائي.
كان لا بدّ من التذكير بهذه المرحلة للتأكّد من أن ما يجري حاليا هو في سياق سياسة أميركية تقوم على الاستسلام لروسيا وإيران. من نتائج هذه السياسة النظر بعين واحدة إلى ما يتعرّض له الشعب السوري. مثل هذه السياسة التي تقوم في جانب منها على التنسيق العسكري الروسي ـ الإسرائيلي تتجاهل كلّيا الدواعش الشيعية وتركّز فقط على “داعش” السنّي وتوابع هذا التنظيم.
الشيء الوحيد الأكيد حتّى الآن أن ثمّة رغبة أميركية وروسية وإيرانية في إيجاد حواضن لـ”داعش” في كلّ المناطق السورية وفي كلّ منطقة فيها أكثرية سنّية في العراق. هل هذا ما تريده أميركا في الشرق الأوسط؟ هل هذا ما يسعى إليه باراك أوباما الذي ليس معروفا، إلى اليوم، لماذا قرّر رؤية كلّ الألوان باستثناء اللون الأحمر الذي كان لون الخط الذي رسمه للنظام السوري؟
من حسن الحظ أن هناك في الجانب العربي من يعرف تماما أن ليس في الإمكان الاتكال على الولايات المتحدة أو الرهان عليها في أيّ شأن هذه الأيّام وأن لا ضير من إبقاء خط التواصل مع موسكو مفتوحا.
الدليل على ذلك الاتصال الأخير بين الملك سلمان بن عبدالعزيز وبوتين الساعي هذه الأيام إلى تفادي مواجهة مع المملكة. فالكلام الروسي عن أن موازنة البلد ووضعه الاقتصادي لن يتأثرا بهبوط أسعار النفط والغاز كلام لا يمكن لأيّ عاقل أن يصدّقه.
لم يعد بعيدا اليوم الذي تقتنع فيه روسيا أن ليس أمامها سوى الدخول في مساومة مع الجانب العربي، أقلّه إذا كانت مهتمّة برفع أسعار النفط والغاز. ستكتشف روسيا أن الإرهاب ليس “داعش” وحده. هناك دواعش أخرى في سوريا وغير سوريا. الإرهاب ليس حكرا على أهل السنّة في المنطقة. هناك إرهاب مرتبط ببعض المجموعات الكردية، على حد تعبير أردوغان. وهناك ميليشيات شيعية تمارس كل أنواع الإرهاب في سوريا والعراق وفي أماكن أخرى.
متى يعالج الاتفاق الأميركي ـ الروسي هذا الواقع، ويتوقف عن النظر إلى سوريا من زاوية واحدة، سيكون في الإمكان عندئذ القول إنّ وقف النار قابل للحياة. سيكون في الإمكان القول أيضا إن هناك رغبة واضحة في معالجة الأزمة السورية من كل الجوانب بدل الاكتفاء باستيعابها والتغاضي عن الحرب التي يتعرّض لها الشعب السوري.