العرب - من أول أيام الهَبَّة السورية ضد النظام، وبالتخصيص من ثاني أيام العنف الدكتاتوري الأحمق ضد أطفال درعا الذين كتبوا على أحد جدرانها (الشعب يريد إسقاط النظام)، والمرشدُ الأعلى، وجميعُ أبنائه (المجاهدين) من ضباطِ الحرس الثوري، وحسن نصرالله، وزعماء الحكم الديمقراطي الجديد في العراق، وقادة ميليشياتهم، والحوثيون، والمعارضون البحرانيون، بجميع فضائياتهم وإذاعاتهم وصحفهم، وما أكثرَها، كانوا يعلنون بلغة واحدة، وبصوت واحد لا يختلف من واحد إلى آخر، أنهم يواجهون مؤامرة (تكفيرية وهابية) في سوريا. ثم تطور خطابهم ليقول إنها هجمة تآمرية تتحد فيها القوى الاستكبارية والصهيونية والجماعات التكفيرية ضد محور المقاومة.
ومن أوائل العام 2012 والمرشد الأعلى ووكيله حسن نصرالله، يزعمان، ويردد زعمهما مئات المذيعين والصحفيين الممولين من النظام الإيراني، بأن إرسال مقاتلي حزب الله كان فقط إلى الحدود اللبنانية السورية، لحماية القرى (المقاوِمة) من التكفيريين السوريين، وفقط إلى مقام السيدة زينب لحمايته من تخريبٍ (سني) محتمل.
ورغم أن التظاهرات الشعبية الصامدة في مئات المدن والقرى السورية كانت، على مدى ستة أشهر، (سلمية سلمية)، ولا تزيد هتافاتها عن طلب الحرية والعدالة والكرامة، فإن حسن نصرالله لم يقصر في الزج بمقاتليه، بكل أنواع سلاحهم الإيراني، في صفوف شبيحة الدكتاتور بشار الأسد، ورش دبَكاتهم الاستعراضية، وأناشيدهم البريئة، وصدورهم العارية بالرصاص الحي.
وحين فقد المتظاهرون صبرهم، وقرروا تسليح بعض شبابهم بأسلحة صيد العصافير، لحماية منازلهم ومدارسهم وأسواقهم من شبيحة حسن نصرالله وبشار، أمر المرشد الأعلى المئات من ضباط الحرس الثوري، ومقاتلي ميليشيات نوري المالكي وهادي العامري والبطاط، وبإشراف مباشر من قاسم سليماني، بقصفهم بالراجمات والصواريخ، وتدمير مدارسهم ومستشفياتهم ومساجدهم، وحرق مزارعهم، دفاعا عن آل البيت، وحمايةً للمقاومة.
في كل تلك المسيرة كان المرشد الأعلى مستريحا ومنتعشا بأخبار انتصارات مجاهديه في سوريا، بوجه خاص، وفي العراق ولبنان والبحرين واليمن، بوجه عام. كان يعلّق، بين حين وحين، فيكرّر القول بأن ما يفعله في سوريا جهادٌ مقدس لحماية (الشقيقة) سوريا، ولردع المعتدين على (سيادتها)، وعلى رئيسها المجاهد، وللدفاع عن المقاومة، ولتحرير فلسطين، من النهر إلى البحر، ومحو إسرائيل من الوجود. ولكنه، أمس، وقد تم في طهران وفي مدن إيرانية أخرى، تشييعُ عشرات القادة الميدانيين الذين سقطوا في محور حلب، فاجأ العالم بتصريحات تكاد تكون الأولى من نوعها في عشرات السنين.
ووفقا لوكالة “فارس” فقد نقل هذه التصريحات الأمين العام لمجلس صيانة الدستور، أحمد جنّتي، خلال حفل تأبين القتلى، حيث قال “كنت أتصور أن لا نعلن عن هذه التصريحات التي أطلقها المرشد، بشكل علني. لكنه (المرشد) أكد بنفسه، فيما بعد، أننا لو لم نقاتل في سوريا، لاضطررنا لقتال العدو داخل بلدنا، كمحافظة كرمنشاه، والمحافظات الحدودية الأخرى”.
ومربط الفرس في خطاب المرشد الأعلى الأخير هو اعترافُه العفوي الخطير بخوفه المرضي (الوهمي) من العرب، وكشفُه الدافعَ الأولَ والحقيقي في حروبه الاستباقية تلك. فقد أعلن صراحة أنه يقاتل شعوب سوريا واليمن ولبنان والعراق والبحرين وغيرها لئلا يقاتلها في إيران ذاتها.
أما حين يصف ثوار الشعب السوري وعرب الدول الأخرى الذين يبادئهم بالغزو، ويعبث بأمنهم، ويهدد وجودهم، دون مبرر، ودون مبادأته من أحد منهم بعدوان، بأنهم كفار، فهو إنما يكشف عن رجعية وتخلف وتعصب ونزعة عدوانية متأصلة، وبلا حدود. فهو يعتبر نفسه وأنصارَه المؤمنين الوحيدين، والقيّمين على الدين، أما الذين لا يدخلون في طاعته، ولا يرضون بعدوانه، فتكفيريون، وهو وحده الموكل من الله ورسوله وآل بيته بعقابهم وذبحهم وحرق منازلهم وتهجيرهم بالملايين.
وفي واقع الحال فإن اعتراف المرشد الأعلى بأن حروبه ضد الشعوب العربية هي حروب قومية فارسية حتى العظم، يبرهن على أن كل ما كان يقوله، ويردده من بعده حسن نصرالله، وقاسم سليماني ونوري المالكي وهادي العامري وباقي شلة الردح الطائفي المراوغ والمخادع، من عام 1980 وإلى اليوم، كان كذبا كبيرا على الله، وعلى نفسه، وعلى شعبه، وعلى العالم. لأنه كان يزعم بأن حروبه دفاعٌ عن آل البيت، وعن المقاومة، وهو، باعترافه، أخيرا، إنما يقاتل في خدمة أهدافه وطموحاته التوسعية العنصرية، وأحلامه باستعادة أمجاد الإمبراطورية الفارسية، وهذا خلاف الزمن والعصر والمنطق السليم.
لقد كان المنتظر منه، بحكم واجبه (الديني)، ومسؤوليته (الدنيوية) السياسية السلطوية عن أرواح الإيرانيين، وعن أرواح أبناء طائفته من العراقيين واللبنانيين، أن يتوقع الهزيمة من بداية المأزق السوري، فيحقن دماء الشيعة قبل السنّة، والمسلمين قبل غيرهم من السوريين أتباع الأديان الأخرى، لأن التاريخ أثبت، بالصورة والصوت، أن جميع حملات القتل والحرق والتدمير والتجويع والتهجير لم تكسر إرادة شعب يريد حريته واستقلاله، مهما غلا الثمن، ومهما طال الزمن.
ونسأل، أليست أرواح الآلاف من الإيرانيين والسوريين واللبنانيين والعراقيين واليمنيين والفلسطينيين التي أزهقها المرشد الأعلى في عشرات السنين، خسارة؟ وأليس إهدار الملايين والمليارات من أموال الشعب الإيراني على إنشاء الميليشيات والعصابات، وعلى تسليحها وتدريب مرتزَقتها على تخريب المدن الآمنة، وعلى تهجير الملايين من سكانها، خسارة؟ وهل سيغفر الإيرانيون، له أخطاءه السياسية والعسكرية والاقتصادية والمعنوية، بحقهم هُم، قبل ضحاياه من عرب الدول المعتدى عليها، دون مبرر؟
خصوصا حين يعترف لمواطنيه الإيرانيين والعالم، وبعظمة لسانه، بأن معركته الخاسرة والباهظة والعبثية في سوريا لم تكن من أجل الطائفة، كما ادّعى، ولا للدفاع عن آل البيت، ولا عن مقام السيدة. كما أنها لم تكن، بأيّ حال من الأحوال، من أجل حماية المقاومة ومحو إسرائيل من الوجود، بدليل سكوته المخزي، وقبوله المعيب بمُحالفة الغزو الروسي الأرعن لسوريا، ومعاضدته لطائراته ودباباته وصواريخه وهي تهدم المدن والقرى (المسلمة) على رؤوس أهلها، برغم الاعتراف الرسمي الروسي المتكرر بالتنسيق مع نتنياهو وأميركا وقاتل الأطفال والنساء بشار الأسد.
ترى هل كانت تصريحات المرشد الأعلى الأخيرة زلّة لسان، أم كانت هلوسة سببُها مرارةُ كأسٍ آخر من السمّ يتجرعه، اليوم، في سوريا والعراق واليمن، بعد كأس السمّ الأول الذي تجرعه، قبله، سلفُه الخميني في العراق، قبل عقود؟