الحياة - ربما يكون من أكبر الحيل والخدع السياسية في المنطقة ما تشهده إيران من أنواع الانتخابات المتوالية، رئاسية وتشريعية وبلدية، وتلك التي تخص سلسلة من المؤسسات التي وضعت وفق نظام معقّد مثل مجلس خبراء القيادة ومجلس صيانة الدستور، حيث يصوت أعضاء مجلس الشورى على اختيار ستة من أعضاء المجلس الذين يرشحهم رئيس السلطة القضائية، في حين يعيّن المرشد الستة الآخرين. والحقيقة أن توالي الجولات الانتخابية في هذا البلد، وما تحظى به من تغطية إعلامية في الدول العربية والغربية، يوحيان للعالم بأن ثمة حراكاً سياسياً حقيقياً يحدث، وتداولاً للسلطة يتم وفق الإرادة الشعبية بين تيارات سياسية متنافسة، ويطاول حتى رئاسة الدولة التي تتناوب عليها وجوه سياسية يفترض أنها تدير الدولة. وهذه هي الحيلة أو الخدعة الأولى التي يبتلعها العالم أو أنه يعرف الحقيقة لكنه يغض الطرف عنها لأغراض في النفوس.
الخدعة الثانية تتعلق بمصطلحي الإصلاحيين والمحافظين، واختيار المصطلحين ينطوي على كثير من التضليل. فالإصلاحيون الذين عادوا للفوز في الانتخابات إنما يراد لهم أن يوصلوا رسالة إلى العالم مفادها أن من يقود إيران زعماء يغلِّبون الاعتدال والتفاهم ومد الجسور مع العالم، وأنهم بديل مقبول وجيّد لآخرين يريدون التصعيد والمواجهة، ومن ثم على العالم أن يدعمهم ويستجيب لهم. وعلى رغم أن الحيلة مكشوفة ومبتذلة، فإن العالم يمررها ويبتلعها لأغراض في النفوس.
ووراء كل هذه الكرنفالات الانتخابية والعروض البراقة، تبدو الحقيقة غير بعيدة ولا خفية عن الفهم، فليست الانتخابات ولا المناصب مثل رئاسة الجمهورية إلا واجهات مسلوبة التأثير منزوعة الصلاحيات، ويقتصر دورها على إطلاق قنابل الدخان فيما يمتلك المرشد الأعلى كل مفاتيح القرار، ومن ورائه الحرس الثوري الذي يمثل قوة تدمير هائلة في أيدي أيديولوجيين تحركهم نزعة مقيتة يجتمع فيها الهوس القومي والتعصب الطائفي في أسوأ صوره. وما المؤسسات والمجالس والمجامع التي تربطها علاقات معقدة ومتداخلة إلا جزء من آلة ضخمة تتحرك وفقاً لإرادة من خارجها، وتضبط إيقاعها على النحو الذي تبتغيه هذه اليد الخارجية، ويعرف فيها الجميع أدوارهم ويؤدونها بدقة.
كل هذا ليس خافياً على الغرب. وقد أُلِّفت عشرات الكتب والدراسات التي شرَّحت بنية النظام الإيراني وحللتها، وحددت الجهة الحقيقية التي تمتلك القوة، وأكدت أن كل ما يمور به السطح السياسي من حراك لا يمثل ما يُدبَّر في الدهاليز التي تُطبخ فيها السياسة الحقيقية التي لم تتغير منذ الثورة الإيرانية في العام 1979، وهي تدور حول الهيمنة الإقليمية وتصدير الفوضى والعنف والشقاقات إلى دول الجوار العربي التي تصرّ على اعتبارها مجرد ساحة لنفوذها، وتعتمد في ذلك على اللعب بالورقة الطائفية والتدخل من خلالها في الشؤون الداخلية للدول العربية ودول الخليج خصوصاً، انطلاقاً من أن المواجهات الطائفية تخلق لها الحلفاء والأتباع والأنصار بين الشيعة العرب، وتزيد من ولائهم لإيران في ظل طرح الولاء المذهبي بدل الولاء للوطن والانتماء إليه.
إذا شئنا معرفة الحجم الحقيقي للرئيس في النظام الإيراني، فيمكن أن نعود إلى تصريحات لعلي أكبر صالحي، وزير الخارجية في عهد محمود أحمدي نجاد، نشرتها مجلة «ديبلومات» الإيرانية حول الاتصالات السرية التي أدت في نهاية المطاف إلى إبرام الاتفاق النووي مع إيران. فقد بدأت رسائل في هذا الشأن تُتداول منذ أيلول (سبتمبر) 2011، وأطلع عليها المرشد الأعلى مباشرة ولم يُعلم الرئيس نجاد بها، مبرراً ذلك بأن «القضية ليست جديّة ولا شيء مهماً لإخبار الرئيس به، وأن عليه التأكد من جدية القضية أولاً ثم إخبار الرئيس». وظلت المفاوضات تجري بعيداً من سمع نجاد الذي كانت جعجعاته تنطلق بين حين وآخر لتأخذ العالم في اتجاهات أخرى، فيما التحضيرات الحقيقية لتحول استراتيجي ضخم كانت على أشدها.
والواقع أن لا خطابيات نجاد المدوية منعت المحادثات السرية مع «الشيطان الأكبر»، ولا إصلاحية خلفه حسن روحاني المزعومة كانت في الحسبان أو دعمت هذه المحادثات، فالقرارات الحقيقية اتخذها المرشد الأعلى محاطاً بحرسه الثوري الذي لا يتحول عن هدفه ولا يُغيِّره، وإن كان يُغيِّر الواجهة التي يخاطب العالم من خلالها ويدير عملية سياسية يوفر لها كل ما يوحي بأنها حقيقية، يناور فيها ويغيِّر المواقع ويتظاهر بتقديم التنازلات، فيما هو ماضٍ نحو هدفه الذي لم يتغير منذ أربعة عقود تقريباً.
دول مجلس التعاون لا تنطلي عليها مثل هذه الحيل، وتدرك أبعادها منذ وقت طويل. وإذا كانت الولايات المتحدة غيّرت مواقفها من إيران واستراتيجياتها تجاه المنطقة بما يخدم مصالحها من وجهة نظرها، فإن دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية تمتلك القدرة على إحباط المخطط الذي لم تتوقف فصوله يوماً، وإيقاف التمدد الإيراني الذي يتصور واضعو خططه الشيطانية أنهم يقتربون من تحقيق أهدافهم.
انعكس نجاح روحاني «الإصلاحي» المزعوم منذ منتصف العام 2013 تصعيداً لم يسبق له مثيل في تغذية الفوضى في العراق واليمن ولبنان، وتحريك الميليشيات والأذرع المسلحة التابعة لها في العالم العربي بأقصى ما تملك من قوة، من «الحوثيين» في اليمن إلى «الحشد الشعبي» في العراق، و «حزب الله» في لبنان، وحيثما تحركت هذه الأذرع تدفع الشعوب العربية ثمناً باهظاً من أمنها واستقرارها وأرواح أبنائها ومقدراتهم الاقتصادية، وتتفجر الشقاقات والأحقاد والصراعات التي تتفنن إيران وصنائعها في إثارتها وتهيئة الأرض لاستمرارها سنوات طويلة. وليس غريباً أن تكون قائمة الدول التي امتد إليها النفوذ الإيراني هي الأقرب إلى التفكك والانهيار، وأن يكون تسللها إلى أي دولة عربية نذيراً بالشؤم والخراب.
ولم تتوقف إيران كذلك عن محاولات زعزعة الاستقرار في مملكة البحرين، أو إقامة شبكات التجسس والتخريب في السعودية والكويت والإمارات، الأمر الذي تطلّب من دول الخليج الانتقال إلى استراتيجية جديدة تتمثل في قطع الأذرع الإيرانية في دول الجوار الخليجي باستخدام القوة العسكرية، وهي اللغة الوحيدة التي يمكن أن تفهمها إيران وأذنابها في المنطقة. وقد تحوّل اليمن الذي اعتقدت إيران أنها نجحت في التهامه والسيطرة عليه عبر الانقضاض على قيادته الشرعية، إلى عنوان لفشل المخططات الإيرانية وتحولها وبالاً عليها وعلى أتباعها. ولعل هذه الاستراتيجية الجديدة التي فاجأت مخططي طهران أيقظتهم من أوهامهم الإمبراطورية، ودفعتهم إلى إعادة حساباتهم بعد أن صوّرت لهم أمانيّهم أن حلم الهيمنة السياسية والاقتصادية على المنطقة قد أصبح قاب قوسين أو أدنى.
إن دول مجلس التعاون تعي أنها ينبغي أن تتعامل بحزم مع الغطرسة الإيرانية، وأنها تمتلك من الأدوات والوسائل ما يمكّنها من ردع إيران وتعطيل حيلها، سواء على مستوى التحرك السياسي إقليمياً ودولياً، أو على مستوى المواجهة الصريحة التي تفضل إيران أن تخوضها عبر وكلائها، ولكنها لن تُفلح في مواصلة هذه اللعبة طويلاً.