العرب - تنوّعت التصريحات الدولية عن مستقبل سوريا دون الاكتراث بموقف السوريين وآرائهم في الموضوع، من التقسيم إلى النظام الاتحادي (الفدرالية)، ونسيت أو تناست هذه الجهات الدولية أنه حتى هذه السيناريوهات المطروحة تتطلب حلا سياسيا للأزمة السورية، فلا يمكن أن تتحقق أي من هذه المقترحات لمستقبل سوريا إلا بعد توقف الحرب السورية، والتي بدورها لا يمكن أن تتحقق إلا بإزالة كل العقبات الحقيقية لتحقيق الحل السياسي.
بكلام آخر فإن هذه التصورات لمستقبل سوريا، ليست خطة بديلة عن إيجاد الحل السياسي المطروح وفق التفاوض السوري بإشراف دولي، بل هي تصور لمستقبل سوريا في مرحلة ما بعد العملية الانتقالية، بحسب التطلعات الأميركية والروسية.
الهدنة الهشّة بين السوريين هي أحد مقومات الانطلاق للحل السياسي، وبتعبير أدق الهدنة الأميركية الروسية سارية المفعول على السوريين رغم الكثير من الخروقات، فوقف إطلاق النار بين السوريين جاء من أصحاب القرار الدوليين. وتأكيدا لذلك، فإن تنفيذ القرار الأممي 2254 الصادر عن مجلس الأمن بعد التفاهم الروسي الأميركي على خارطة الطريق، يتطلب التدرج في الحل من البداية المتمثلة بهدنة جدية توقف الصراع السوري العسكري وتفتح الطريق لوصول المساعدات الإنسانية للمناطق المحاصرة ثم الانتقال إلى التفاوض الجاد أيضا.
المؤشرات تقول إن الرغبة بتطبيق خارطة الطريق للحل السوري قوية لدى اللاعبين الكبار، ممّا يعني أن اللاعبين الصغار سيجبرون على الالتزام بخطوات خارطة الطريق، وسيكون الصراع بين السوريين لأول مرة بعد خمس سنوات عبارة عن صراع بالكلمات وليس بالرصاص بحثا عن صيغة لمنظومة الحكم المقبل التي أرادها الروس والأميركيون.
ووفق القرار 2254، هناك حاجة جوهرية للتوافق بين نظام الأسد والمعارضة السورية على إقامة جسم حاكم جامع يحظى بصدقية بين الأطراف المقبولة داخليا وخارجيا لإدارة المرحلة الانتقالية، ووضع دستور يساعد على تقديم مخارج تحفظ ماء وجه الأطراف التي كانت عقبة وجزءا من الأزمة، ثم الدعوة إلى انتخابات برلمانية ورئاسية وفق هذا الدستور الجديد، الذي سيكون الدستور المخلص للسوريين من ورطتهم، أو قد يكون الناقل لهم من ورطة الحرب إلى ورطات المرحلة الانتقالية وما بعدها من سيناريوهات ليست أقل خطرا من الحرب على مستقبل البلاد.
لا أحد يمتلك حلا جاهزا لموضوع الأسد أكثر من الروس وبالتأكيد وفق التوافق مع الأميركيين، ولكن هذا لا يعني أن الأمر سهل لدرجة تجاوز هذه العقدة بمجرد التفاهم الروسي والأميركي. فهناك مشكلة متى يمكن أن تضمن روسيا رحيل الأسد إذا حصلت على كل الضمانات والمزايا التي دخلت من أجلها الحرب بشكل مباشر. وهل حقا الأطراف الدولية والإقليمية مستعدة لأن تعقد صفقة مع روسيا التي تضع حقيبة متكاملة من المطالب مقابل تقديم مخرج للأسد. فروسيا التي تريد البقاء في سوريا لفترة ليست بقصيرة، تعلم تماما أنها بحاجة إلى الاستقرار في هذا البلد كي ينعكس وجودها إيجابيا عليها، مما يعني أن بقاء الأسد عبء عليها وبنفس الوقت مغنم لها تستطيع أن تعقد صفقات دولية عليه، ولكنها بنفس الوقت غير مستعدة لأن لا تتم تلبية كل مطالبها كمعالجة أسعار النفط مع دول الخليج وتحديدا السعودية ومعالجة رفع كل العقوبات الاقتصادية والمالية الأوروبية وكذلك الأميركية، بالإضافة إلى التفاهم الشامل على وضع أوكرانيا الجديد. مما يعني أنه حتى إذا أبدت روسيا عدم تمسكها بالأسد، فإنها لن تفرط فيه بالرخيص.
ترى روسيا أنه في حال فشل تحقيق صفقة إقليمية دولية معها على مستقبل الأسد، فإنها ستنتقل إلى الخيار الثاني المتمثل في طرح الفيدرالية كمنظومة حكم سوريا الجديدة وتضمين هذا الطرح ضمن الدستور المطلوب صياغته أثناء المرحلة الانتقالية.
وهذه المنظومة الاتحادية تعطي فرصة وموقعا جديدا للأسد وهي أن يكون الحاكم على إقليم الساحل أو ما شابه ذلك، فهذا الخيار هو الخيار البديل عن فكرة إقامة دولة مركزية يكون من الصعب المحافظة على الأسد فيها لمدة أطول. وبنفس الوقت ترضي بعد الأطراف الدولية والإقليمية التي لا ترغب بأن تسمع أن رئيس سوريا هو الأسد، ومقابل ذلك تفرض روسيا نفسها وصية على سوريا الاتحادية لفترة من الزمن تسعى خلالها إلى توطيد نفوذها من جهة ومن جهة أخرى تحافظ على المغنم بيدها أي الأسد حتى يأتي الوقت المناسب لعقد صفقات مستقبلية مع شروط ومعطيات جديدة لا تقل عن مطالبها السابقة، أي تستخدم المرحلة الاتحادية كوسيلة لتجميد الصراع في سوريا حتى نضوج صفقة كبرى جامعة إقليميا ودوليا تؤدي إلى حل كل المعوقات.
تبني روسيا لفكرة الدولة الاتحادية في سوريا سيعطي الأحزاب الكردية صلاحيات مطلقة لإدارة جزء كبير من سوريا وتحديدا المناطق الحدودية مع تركيا، ولن يقتصر التهديد لتركيا حدوديا بل سيكون قاعدة خلفية مدعومة روسيا لاستقطاب بعض الحركات الكردية التركية لتنطلق في أعمالها ضد الحكومة التركية.ما تفكر فيه روسيا هو أن تستقطب الأحزاب الكردية لتكون لها قوات على الأرض ليس فقط في مواجهة داعش بل حتى ضد المعارضة السورية المسلحة، وهذا النموذج في حال استطاعت موسكو فرضه لن يقف شيء في طريقها من إعادة استنساخه في الجنوب التركي مستغلة غياب أي قرار تركي جاد بالتدخل العسكري في سوريا.
لم يكن الحديث الروسي عن فكرة تبني الدولة الاتحادية مفاجئا للأطراف الدولية، بل حقيقة وكانت بريطانيا أول من أشار إلى أن روسيا لم تأت لإيجاد حل سياسي يحافظ على الدولة السورية المركزية بمقدار ما جاءت لفرض “دويلة علوية” للأسد. فقد ألمح وزير الخارجية البريطاني فيليب هاموند، بالقول إن “روسيا ربما تستغل المباحثات في جنيف لاقتطاع دويلة علوية للأسد في سوريا” أي أن المعلومات والتصريحات البريطانية، تشير إلى أن مشروع التقسيم الفيدرالي لدى الروس يسير في هذا الاتجاه.
التصريحات البريطانية في هذا الخصوص تأتي من حقيقة أن الخبراء والسياسيين في بريطانيا الذين هم عادة أكثر عمقا وفهما لشؤون الشرق الأوسط وقراراتهم وتصريحاتهم، لا تصدر بشكل عشوائي ودون الاستناد إلى معلومات مؤكدة ودراسات مطولة في الموضوع.
المنظومة البريطانية للقرار الخارجي للمنطقة العربية مبنية على مؤسسات “بيوت الخبرة” المتخصصة بمجالات محددة في شؤون الشرق الأوسط، ويتصدر الشأن السوري حاليا قمة هذه المجالات، انطلاقا من الخطر الذي يهدد أوروبا انطلاقا من القواعد الخلفية في سوريا والعراق.
التقسيم الأميركي
التلميح الأميركي لتقسيم سوريا هو رسالة أكثر شفافية من الجانب الروسي الذي تحدث عن الفيدرالية، بينما الجانب الأميركي لا يشعر بالحرج ليقول إن إبقاء حكومة مركزية قوية واعتماد دولة اتحادية (فيدرالية)، أمر غير ممكن في ظل الحفاظ على سوريا موحدة. فقد قال وزير الخارجية الأميركي جون كيري خلال جلسة استماع أمام لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي “ربما يفوت الأوان لإبقاء سوريا موحدة إذا انتظرنا فترة أطول”. وفي حين أن حديث روسيا عن الفيدرالية ليس إلا غطاء لما بعده من تقسيم سياسي وجغرافي، فحرج الروس من تبني التقسيم بشكل رسمي نابع من حقيقة وجودهم العسكري في سوريا ومن ضرورة استقطاب كل المكونات السورية للتعاون مع موسكو لإعادة هيكلة الحكم في سوريا، فلذلك تجنب الروس الحديث بحقيقة التقسيم واكتفوا بالتلميح للفيدرالية، بحسب القراءة الأميركية.
الأميركيون يعتقدون أن أي دولة غير مركزية ستظهر في سوريا لن تكون مجرد دولة اتحادية بل مقدمة لتقسيم سوريا من باب أمر الواقع، الذي يقول إن كل طرف من الأطراف السورية الحالية يسيطر ويدير أجزاء متفرقة من سوريا لا تربطها ببعضها البعض أي مقومات أو ضرورات، بل النزعة الانقسامية فرضت نفسها كأمر واقع على السوريين في تنقلهم بين هذه التقسيمات كما لو أنهم يتنقلون بين دويلات. وهذا الواقع سيكون دافعا لتحويل أي محاولة تتبنى أي نظام حكم غير مركزي لتقسيم سوريا إلى دويلات يتزعمها أمراء حرب أكثر من كونها دولا أو مقاطعات في دولة اتحادية، وفق الكثير من الدراسات الأميركية التي تحلل مستقبل سوريا وشكل الحكم القادم فيها.
يستشهد الباحثون والسياسيون أثناء حديثهم عن تقسيم سوريا “كحل مستدام للأزمة الحالية” بالعودة إلى تجربة تقسيم البوسنة والهرسك وفق اتفاق “دايتون” وإلى بلدين هما دولة البوسنة والهرسك ودولة جمهورية صربيا، فالصراع الذي استمر من 1992 إلى 1995 جعل بقاء البوسنة بلدا موحدا أمرا مستحيلا، مما دفع الأطراف المتفاوضة في مدينة دايتون الأميركية إلى تبني فكرة التقسيم برعاية دولية شملت روسيا وأميركا ودولا أخرى.
وصحيح أن التقسيم كان حلا لأزمة دموية في البوسنة، إلا أنه لا يعد بالضرورة أفضل خيار للسوريين، ولا ننسى أن الشعب السوري سبق له أن رفض التقسيم الذي فرضه عليه قائد جيوش فرنسا في الشرق، المفوض السامي هنري غورو بين أغسطس 1920 ومارس 1921 والذي قسم سوريا بحجة أن مكوناتها الدينية والعرقية متنوعة وغير متمازجة مع بعضها البعض. فقد رفض حينها السوريون حل التقسيم وأي مشاريع أخرى مشبوهة كانت تهدف إلى تحويل سوريا إلى مجموعة من الدويلات تمزّق النسيج الاجتماعي للسوريين، سواء بحسب العرق أو الدين. فهل سيرفض الشعب السوري مرة ثانية المحاولة الأخطر لتفكيك سوريا أرضا وشعبا من باب “إنقاذ” السوريين؟