2016-04-11 

العقيدة الخارجية الروسية والانسحاب الأميركي

أمين بن مسعود

العرب - إعلان موسكو على لسان وزير خارجيتها سيرحي لافروف الإعداد لإرساء عقيدة جديدة في السياسة الخارجية الروسيّة بإيعاز من الرئيس فلاديمير بوتين يشير إلى أنّ موسكو تحضّر لتغيير جوهريّ صلب دورها الاستراتيجي خلال المرحلة القادمةوالحقيقة أنّه عند الحديث عن الدول الإقليمية الكبرى تتقاطع الأوضاع المحلية مع المناطقيّة مع الدوليّة وتنتفي بمقتضاها الحدود الضيّقة، ذلك أنّ الدول الكبرى تبني سياساتها على التقاطع المصلحي بين الداخل والخارج والتفاعل بين المدخلات والمخرجات.

 

وكما رسم أحمد داوود أوغلو العقيدة الدبلوماسيّة التركيّة من خلال كتابة “العمق الاستراتيجي”، ملامح السياسة الخارجية التركيّة خلال السنوات الأولى من الألفية الثالثة، قبل أن ينقلب عليها أردوغان بعد أحداث الربيع العربي، فإنّ لافروف ستناط بعهدته اليوم لا البحث عن موقع قدم لموسكو في رقعة الشطرنج الدولية، وإنّما توسيع الحضور والتمدّد إلى فضاءات جديدة تجعل من روسيا اللاعب الأساسيّ في المعمورةصحيح أنّ من بين العناوين الكبرى للعقيدة الروسيّة الجديدة اليوم الانتقال إلى زمن تعدّد الأقطاب بالنظر إلى وجود قوى مؤثرة مثل الولايات المتحدة بدرجة أولى والصين والهند بدرجة ثانية، ولكنّ الأصحّ، والذي لا يراد له أن يذكر، أنّ العنوان الأبرز هو التفوّق الروسي زمن الأقطاب المتعدّدة.

 

تدرك موسكو أنّ اللحظة التاريخية تساعدها على إعادة التموقع في العالم بالنظر إلى عدّة أمور من بينها نضوب النفط وندرته مقابل الغاز الطبيعي الذي تحتاجه أوروبا والذي تزخر روسيا به، الدعوات المتتالية إلى اعتماد الروبل الروسي كعملة للتداول العالمي مع الدولار، تحوّل موسكو مؤخرا إلى محـجة للمسؤولين العرب بعد أن خرجت من قوقعة الانحسار السوفيتي وأصبح حضورها واضحا في القضايا الدولية الكبرى (سوريا، قرة باغ، اليمن).

 

غير أنّ السبب الرئيسي لـ”إطلاق” العقيدة الجديدة كامن في إعلان واشنطن لعقيدتها الخارجية الحديثة عبر الحوار الصحافي للرئيس الأميركي باراك أوباما مع مجلّة “ذي آتلانتيك” والذي لخّص فيه المقاربة الأميركية الجديدة في العالم في ثلاثيّة “الانسحاب من الشرق الأوسط والمنطقة العربية”، و”التركيز على شرق آسيا وأميركا اللاتينية كمنطقة نفوذ جديدة لواشنطن”، و”التصالح مع الدول ذات العلاقات المضطربة مع أميركا؛ كوبا وإيران”، وفق تصريح أوبامافهمت موسكو تصريحات أوباما كإعلان انسحاب إمبراطوري بطيء من دول النفوذ، ذلك أنّ الإمبراطورية عندما تضعف تخرج من الأماكن التي تستنزفها وتستبدلها بأماكن أخرى أقلّ تكلفة وأقلّ اضطرابا.

 

كما أدركت موسكو أنّ العقيدة المعلنة هي عقيدة الدولة لا الرئيس، وأنّ سلطة القرار والاستشراف في البيت الأبيض هي التي بتّت فيها وليس أوباما أو فريقه الاستشاري الذي ينتظر الشتاء القادم ليحزم حقائبه نهائيّاوعلى هدي المنطوق والمنطق، ستؤصل موسكو عقيدتها الخارجية الجديدة سواء منها تلك الناعمة أو الخشنة، ولئن اختارت واشنطن الانسحاب البطيء من الشرق الأوسط فإنّ روسيا أيضا ستجتبي التوغّل الهادئ انطلاقا من ترسيخ قواعدها على السواحل السوريّة ومدّها في العراق قبل الوصول إلى أماكن أخرى شرقا وغربا قد تكون من بينها ليبيا.

 

هنا لن يكون غريبا أن تبنى العقيدة الروسية الحديثة على رباعيّة “خلق حدود جديدة للأمن القومي توصل موسكو بالبحر المتوسط” و”إنشاء أسواق مغايرة للغاز الطبيعي الروسيّ” و”منافسة الوجود الأميركي في شرق آسيا عبر مزيد دعم الحلفاء”، “تعزيز الدور الروسي عسكريا واستخباراتيا من خلال محاربة الإرهاب”.

 

وكما أنّ الهدوء سيطبع مرحلة ولادة إمبراطورية جديدة وانسحاب أخرى، فإنّ مجموعة من التقاطعات الكبرى سترسم ملامح “المرحلة الانتقالية الامبراطورية” من بينها المحافظة على أمن إسرائيل ووجودها في الشرق الأوسط، اعتماد الفيدراليّات كمنظومة حكم في دول الربيع العربي (اليمن، سوريا وليبيا)، تمنع إعادة إعمارها من جديد وتبقي على أسباب الوجود الأجنبي فيها وتمنح الأقليات دويلة مانعة لإقامة الدولة.

 

مفارقة التاريخ أنّ في الذكرى الثالثة عشرة لسقوط بغداد على يد القوات الأميركية تختار موسكو إعلان عقيدتها الخارجية، فلئن سقطت بغداد بالقوة فها هي موسكو تعلن تهاوي واشنطن وانهيارها المتدرّج وخروجها من الزمن الامبراطوري في نفس يوم إخراج العراق من الجغرافيا والتاريخ.

 

التعليقات
أضف تعليقك
الأكثر قراءة
مواضيع مشابهه