2016-03-15 

المعركة الأولى: الجبهة النفطية

نواف عبيد

الحياة - نُشرت قبل أيام مقالةٌ في صحيفة «النيويورك تايمز» تنتقد السياسة النفطية السعودية الجديدة، زاعمة أن السعودية أخطأت في اختيارها هذه السياسة، وأن المملكة سينقلب عليها الأمر من جرّاء خيارها إبقاء أسعار النفط منخفضةً. وانتقد كاتب هذه المقالة مقالةً لي نشرتها «الواشنطن بوست» عام ٢٠٠٦، طرحتُ فيها العقيدة النفطية للمملكة ذات الأبعاد السياسية، وتناولت فيها فكرة توظيف نفوذ المملكة في الأسواق النفطية والمالية بوصفه أسلوباً للضغط على إيران لعرقلة اقتصادها المتعثّر سالفاً، أو للتأثير في مجرى الأزمات في العراق وسورية في وقت كانت الميليشيات الشيعية قد أوقعت فيه الفوضى، وبات العراق رهن إشارة طهران. لذلك كانت فعلاً لحظة تاريخية عام ٢٠١٤، حين قادت المملكة تحوّلاً في صفوف «أوبك» بالتخلّي عن نهجها التقليدي بدعم أسعار النفط بسياسة تغيير مستويات الإنتاج إلى سياسة نفطية جديدة تحافظ فيه السعودية على مستوياتها الإنتاجية من النفط الخام في الأسواق العالمية، تاركةً العرض والطلب يحدّدان سعر البرميل مهما أخذت الأسعار في الانحدار.

 

أقرّت السعودية في هذه اللحظة بقرار سيادي أن الحفاظ على حصتها في الأسواق العالمية أولويةٌ لن تتهاون فيها، خصوصاً على الأمد البعيد.وما قد يجهله كاتب مقالة «النيويورك تايمز» أنه على رغم ما يُكتب ويُنشر يومياً على لسان محلّلين غربيين، ككاتبنا الموقّر، إلا أنه بعد مرور أكثر من ١٨ شهراً من اتخاذ القرار فإن المملكة سايرة في هذا النهج، ومستمرة فيه، والنتائج مُسوّغة، بل مُجدية؛ فلا بديل عن السياسة النفطية السعودية، التي أصبحت من أبرز ملامح هذا العهد القيادي الجديد للمملكة في المنطقة.

 

وما يخفى على أصحاب تلك الآراء في الغرب هو أن استراتيجية المملكة في سياستها النفطية ما هي إلا تقاطع ملموس للأولويات السياسية والاقتصادية لها، ونذكر منها هنا ثلاثة محاور:

 

أولاً: أدركت القيادة السعودية الرشيدة الأهمية الاستراتيجية لامتلاك ٢٥ في المئة من احتياطي العالم من النفط الخام، وأكبر سعة إنتاجية من البترول في العالم، فضلاً عن أكبر قدرة إنتاجية احتياطية في العالم، وهي الأهم، لذلك فإنها استثمرت خلال السنوات الأخيرة أكثر من عشرة بلايين دولار في تطوير إمكاناتها من إنتاج احتياطي يجعلها قادرةً على تلبية أيّ عجز عالمي مفاجئ بقدرة إنتاجية احتياطية تصل إلى مليوني برميل إضافية في اليوم. ولا شكّ أن مثل هذا القرار ستكون له آثار سياسية واقتصادية وخيمة على نظراء المملكة، وبذلك تدرك السعودية أن هذه السياسة سلاح لحماية مكتسباتها ومصالحها، من خلال الحدّ من شرّ التدخّلات الجيوسياسية التي تعصف بالمنطقة.

 

كما أن للسعودية بهذا السلاح القدرة على تغيير موازين القوة في عالم النفط، بإجبارها دول العالم (أعضاء منظمة أوبك وغير أعضائها) على القبول بمثل هذه السياسة على رغم النتائج الاقتصادية العكسية التي تشهدها روسيا وفنزويلا والمكسيك من جرّاء انخفاض إيراداتها النفطية.

 

أما الأمر الثاني، فمن منظور محلّي سعودي لن تكون لانخفاض أسعار النفط عواقب داخلية مُزمنة، ولن تحمّل هذه السياسة المملكة فوق طاقتها؛ فالسعودية قادرة على التكيّف مع هذه الظروف المدروسة إلى خمس سنوات مقبلة إذا استدعى الأمر ذلك؛ بفضل انخفاض تكاليف الإنتاج المحلية السعودية بسبب التقنيات الجديدة، والنهج الإداري المبنيّ على الاستدامة، وتحسين الكفاءات في إنتاجية النفط. والأهم من ذلك ما تمتلكه السعودية من قوة اقتصادية متمثّلة في ثالث أكبر احتياطي من النقد الأجنبي بعد الصين واليابان بما يقارب ٧٥٠ بليون دولار، وشبه انعدام دَيْنها العام، وما تمتلكه من أصول احتياطية إضافية في صناديق الاستثمار الوطنية تُقدَّر بـ١٥٠ بليون دولار. وهنا لُبّ الموضوع؛ فالدول الأخرى المصدّرة للنفط؛ مثل: روسيا، وفنزويلا، والعراق، والمكسيك، وإيران، تعارض بشدة السياسة النفطية السعودية؛ لعجز حكوماتها عن تعويض الخسائر الناجمة عن نزول أسعار النفط؛ فأغلب هذه الدول لا تتمتّع بمرونة المملكة الاقتصادية، ووفرة خياراتها المالية، إضافةً إلى الاضطرابات السياسية المحلية التي تشهدها تلك الدول، وما تعانيه من عدم استقرار، وهو ما يزيد الأمور عليها تعقيداً.

 

ثالثاً: المملكة لديها مسؤولية أخلاقية تتعلّق باستقرار الأسواق البترولية، والقيادة السعودية تدرك أن التطوّر مستمر في عالم الطاقة، وأن التغييرات الآتية بدخول الغاز الصخري الأميركي إلى أسواق الطاقة أمر لا جدال فيه. وتشجّع المملكة تنوّع مصادر الطاقة، لكنها تؤمن بأن النفط سيبقى سيّد القرار والاختيار الأول عالمياً؛ لذلك تؤكّد التمسّك بهذه السياسة بالحرص على تطوير القطاع لمواكبة التحديات العاتية.

 

المؤشرات الأولى جيّدة، وتدلّ على أن منطقة الشرق الأوسط، وربما العالم كلّه، سيشهدان نتائج سياسية ضخمة تغيّر معادلات إقليمية عدة؛ لذلك لن تفرّط المملكة في التمسك بهذا النهج الجديد. وتعي المملكة أن الاقتصاد الإيراني المتعثّر سيزداد اضطراباً في ظلّ ظروف اقتصادية تتدهور باستمرار.

 

كما أرى أن استمرار المملكة في الحفاظ على إبقاء أسعار النفط منخفضةً سيُحدث آثاراً ملموسةً ربما تغيّر - عاجلاً غير آجل - مجرى أحداث المشروع الفارسي على الجبهات: العراقية، والسورية، واللبنانية، بإذن الله.

 

التعليقات
أضف تعليقك
الأكثر قراءة
مواضيع مشابهه