العرب - لماذا هذا الإصرار على إبقاء الحدود الجزائرية المغربية مغلقة ليمعن في التفريق بين شعبيْن أثبتت حقائق التاريخ أنهما من أرومة واحدة؟ ولماذا تترك الأمور على عواهنها لموظف الأمم المتحدة بان كي مون ليقدم فتواه بشأن ما الذي ينبغي عمله لحل مشكلة الصحراء المغربية، علما أن هذا الرجل لا يهمه مصير الجزائر أو المغرب من قريب أو من بعيد، كما أنه لن يبالي بهذين البلدين عندما يكون على وشك من حزم حقائبه لمغادرة مكتبه بالأمم المتحدة بعد انتهاء عهدته؟ لماذا لا تتغلب الحكمة على الخلافات حول هذه القضية أو تلك، ثم الشروع في إعادة العلاقات بين الجزائر والمغرب، وتحويل حدودهما إلى فضاء تزدهر فيه الاستثمارات الاقتصادية، ويكون جسرا للتبادل الثقافي وللتواصل الإنساني؟
ففي عام 2010 وعام 2011 شهدت العلاقات الاقتصادية الجزائرية المغربية قفزة معتبرة وكان ينتظر من ذلك أن يكون تمهيدا لتسوية ملفات الخلافات، إذ وصل حجم التبادل التجاري البيني في ذلك الوقت إلى ما يقرب من مليار دولار، فضلا عن إبرام الاتفاقيات في مجال الفلاحة والغاز. هذه البدايات تعاني الآن من التجميد والموت الإكلينيكي والضحايا هم مواطنو الجزائر والمغرب معا.
ألم يحن الأوان للتعلم من الأوروبيين الذين تناحروا عبر التاريخ القديم، وفي القرن العشرين جراء الاقتتال طوال الحربين العالميتين قصد فرض الهيمنة وإيقاظ رفات ذاكرة التراب المختلف عليه؟ ورغم كل هذا الإرث الدموي فإننا نرى اليوم الاتحاد الأوروبي شامخا، وعملته الموحدة توحد طقوس المعيش اليومي للشعوب الأوروبية التي لا تربطها اللغة الواحدة أو العرق الواحد. هنا نتساءل أيضا: هل أنهى قيام الاتحاد الأوروبي الإرث الكولونيالي داخل أوروبا نفسها حقا؟ ولماذا تمضي أوروبا لخلق البديل وتخطو إلى الأمام نحو بناء نفسية جديدة جامعة؟ ماذا نقول بخصوص جبل طارق الأسباني الذي يتبع الآن بريطانيا؟ وماذا نقول عن أيرلندا الشمالية التي ضمتها بريطانيا إلى “تاجها” وهي قطعة جغرافية أصيلة لجمهورية أيرلندا؟ لماذا لم يتم غلق الحدود وإلغاء العلاقات الاقتصادية بين روسيا نصف الأوروبية وبين ألمانيا رغم إلحاق مدينة ليننغراد بالإمبراطورية الروسية وهي جزء من الإمبراطورية الجرمانية حتى عام 945؟.
حقائق الواقع تؤكد لنا أن استعمار الأوروبي للأوروبي ليس شيئا من الماضي، بل هو وضع قائم حتى يومنا هذا ولكن نزعة التخلي عن مفهوم ونمط الدولة / الأمة الوطنية التقليدية، واستبدالها بالاتحاد الأوروبي كشكل حديث وكبداية لبناء الدولة الأوروبية الكبرى متعددة اللغات والثقافات والانتماءات المذهبية الدينية قد بدأت ترسخ جذورها في الوعي واللاوعي الأوروبيين.
وهنا ندرك حجم المأساة عندما نجد النظام الجزائري يقفز على حقائق التاريخ والجغرافيا والدم المشترك، ويرفض الدعوات المغربية المتكررة إلى فتح الحدود، ثم تنشيط التفاوض بين البلدين من أجل إذابة جليد الخلافات وتأسيس مناخ جديد لصالح الشعبين ومن أجل تجنب تفاقم الوضع.
من الواضح أن ذهنية صقور النظام الجزائري لا تزال أسيرة لمشكلات الماضي التي تغذى ويعاد إحياؤها. هذا النمط من الذهنية لا يريد أن يعيش في الحاضر وأن يتخلص من النكوص والعبء النفسيين اللذين يحجبان المستقبل. لا شك أن المشكلة المطروحة حاليا هي مشكلة عدم مواجهة الإرث الكولونيالي الأوروبي للمنطقة المغاربية. ولا شك أيضا أن هذه الكولونيالية تلعب دورا مفصليا في تسميم العلاقات الجزائرية المغربية، وتفرض منطقها الرجعي على الدولة القطرية ما بعد الاستعمارية شكلا والمغرقة في الذاتية مضمونا.
رغم الخلافات بين الجزائر والمغرب في عهد الرئيس الراحل هواري بومدين إلا أن الملك المغربي الراحل الحسن الثاني كتب في كتابه “ذاكرة ملك” عبارة مفعمة بالحزن على وفاة بومدين وقال بأن رحيله عن الدنيا صار يزرع الوحشة في المنطقة. وهنا نتساءل لماذا يتم استبدال الإرث التاريخي والحضاري للدولة الواحدة في عهد البربر القديم وفي عهد الموحدين وغيرهما بالحدود المصفحة، وقطع حبل التواصل بين الشعبين بحكم الشراكة في الدم والثقافة والدين وغيرها من الروابط التي لا ينبغي أن تطمس؟.
في هذا السياق أتذكر ما نُقل عن الرئيس الفرنسي الراحل فرنسوا ميتران الذي يروى أن وزير دفاعه سأله مرة عن الدولة التي يخشى منها، فأجابه بأنه يخشى من بلجيكا بالدرجة الأولى. استغرب وزير الدفاع الفرنسي جواب رئيسه المحنك، خاصة وأن بلجيكا دولة صغيرة مقارنة بفرنسا. وطلب منه أن يفسر له سبب خشيته من بلجيكا الجارة فقال ميتران “إن العلاقات مع الدولة الجارة لا تحكمها الأعراف الدبلوماسية التي تخترع اختراعا من أجل المصالح، بل تضبطها علاقات التاريخ والمصير، وإذا انهارت هذه العلاقات فذلك سيكون شبيها بانهيار جزء من كياني، وهذا ما أخشى منه”.