الاتحاد- خلال مؤتمر عقد في مدينة مراكش المغربية في يناير الماضي، طالب علماء مسلمون من أنحاء العالم بأقوى العبارات بأن يكون للمسيحيين والأقليات الأخرى حرية العبادة في الدول المسلمة، وهو ما يُعد شجباً للتعصب والتطرف. ولعل هذه هي المرة الأولى التي يتعامل فيها قادة مسلمون مع تهديد الأيديولوجية المتطرفة بصورة مباشرة. وتدرك معظم الحكومات العربية التهديد الذي يمثله تنظيم «داعش» على حكمها. والتزمت معظمها بمحاربة الإرهاب وتجريم الحركات الإسلامية المسلحة. لكن قليلاً من هذه الحكومات تعامل مع التحدي الأيديولوجي الذي يمثله تنظيم «داعش»، وحتى الآن يكاد لم يتحدث أي من الرؤساء المسلمين علانية عن التفسير الضيق والمتزمت للعقيدة.
ورغم ذلك، مثلما يقر العلماء والإصلاحيون خلف الكواليس، ما لم يشجب قادة المجتمع وعلماء الدين أساس الأيديولوجية المتطرفة ويدحضون الرسائل الإعلامية المثيرة لفتنة التطرف، فإن «داعش» سيواصل كسب تأييد حفنة من شباب المسلمين في أنحاء العالم العربي.
ولكن ثمة دلالات بزغت مؤخراً على أن كثيراً من قادة المسلمين يدركون التهديد على الإسلام ذاته نتيجة ربطه بعنف وتعصب وتطرف «داعش»، ويبدو أنهم عازمون على ترسيخ أيديولوجية دينية متسامحة. وخلال الشهر الماضي، أصدر مؤتمر ضم أكثر من 300 شخصية من علماء المسلمين وممثلي الدول الإسلامية والطوائف الدينية والأديان عبر العالم، «إعلان مراكش لحقوق الأقليات الدينية في العالم الإسلامي»، دعوا فيه إلى تعزيز حقوق الأقليات الدينية في المجتمعات المسلمة، واستندوا فيه إلى «صحيفة المدينة» التي أقرها رسول الإسلام قبل 1400 عام، وكفل الحرية الدينية للجميع. وحضر المؤتمر علماء مسلمون من 120 دولة إلى جانب زعماء مسيحيين من العراق ودول أخرى يواجه فيها المسيحيون اضطهاداً.
وأعلنوا أن «الظروف في شتى بقاء العالم الإسلامي تدهورت بشكل خطير بسبب استخدام العنف والصراع المسلح كوسيلة لتسوية الصراعات وفرض وجهات النظر». ومكّن ذلك جماعات إجرامية من إصدار فتاوى تشوه بصورة مثيرة للجدل المبادئ والمقاصد الأصلية للإسلام. وأضاف البيان: «من غير المعقول أن نوظف الدين لأغراض العدوان على حقوق الأقليات الدينية في المجتمعات المسلمة».
ونفد أيضاً صبر بعض القادة المسلمين، فخلال العام الماضي، وجه الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي انتقاداً لاذعاً للتفسير المتطرف للإسلام، وطالب جامعة الأزهر في القاهرة بضرورة القيام بثورة على المعتقدات الخاطئة في الإسلام. وقال: «إن زعماء المسلمين عليهم واجب إصلاح مسار لم يتغير منذ ثمانية قرون». وكان يشير إلى مرسوم صدر عام 1258، أنهى ممارسة الاجتهاد، أو حق العلماء في تفسير القرآن في ضوء التفكير والظروف المعاصرة.
وفي حين لم يرد الأزهر بصورة مباشرة، لكنه وقع بعد شهرين اتفاقية مع رئيس المجلس البريطاني بهدف دعم تعليم اللغة الإنجليزية لدى الأئمة الشباب المتدربين في الجامعة. وأعرب البعض عن أملهم في أن تشجع هذه الخطوة الدارسين الشباب على نشر المدونات والتغريدات باللغة الإنجليزية من أجل دحض الرسائل الإعلامية التي ينشرها عناصر «داعش» عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
وفي هذه الأثناء، نشر «مركز الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية»، في أبوظبي، انتقاداً أكثر شدة وتقويضاً للأصولية والتهديد الذي تمثله على الإسلام. ويقول الدكتور جمال السويدي، مدير المركز في كتابه «السراب»: «إن الإسلام السياسي وهم تبيعه جماعات دينية وسياسية تستغله لأهداف حزبية ومصالح شخصية».
وأضاف: «إن التغاضي عن التطرف في مراحله الأولى أفضى في نهاية المطاف إلى مستويات فظيعة من العنف وسفك الدماء على أيدي أعضاء جماعات دينية سياسية ومنظمات متطرفة في مناطق شتى من العالم العربي، من دون أي احترام لقدسية الحياة أو الكرامة الإنسانية».
لكن المثير للجدل، أنه قارن الإسلام السياسي والجماعات الدينية المتطرفة في الوقت الراهن بأوروبا في العصور الوسطى، وأشار إلى أن أتباع هذه التيارات والجماعات المتطرفة يتجهون إلى طريق مسدود بسبب عجزهم عن التكيف مع الحداثة. وتساءل الدكتور جمال سند السويدي في كتابة «لماذا تعتبر الحداثة نقيض التدين؟»، و«لماذا تعتقد الجماعات الدينية في المجتمعات العربية والإسلامية أن الحديث عن الدين ينتهي حيث يبدأ الحديث عن التقدم والتطور؟».
ويؤكد «السويدي»، في كتابه، أن الدين يجب أن يوضع في مكانه الصحيح، وألا يتم ربطه بـ«ممارسات رجعية ويُلطخ بالجهل»، ويتم استخدامه من قبل جماعات تحاول إلقاء اللوم على عاتق أشخاص في الخارج بسبب إخفاقات داخل دولهم، بدلاً من أن يسألوا عن مكمن الخطأ. ويقول: «إن المستويات المرتفعة من الإرهاب وسفك الدماء والتعصب والعنف والارتباك، التي نشهدها اليوم، حدثت على مر التاريخ أثناء فترات الانحطاط الثقافي والضعف الفكري والركود العلمي». وذلك الجدل الفكري القديم كان في الحقيقة جدل بين التطرف والحداثة. ويتساءل: «هل توجد مشكلة في الجمع بين الدين ومصادر الحداثة؟». ويضيف: «إن المشكلة الحقيقية كانت في الطريقة التي مارست بها جماعات دينية الديكتاتورية المطلقة، وإضفاء طبيعة متسلطة مهيمنة على طبيعتهم الاستبدادية، استناداً إلى رفض وإقصاء وقتل الآخرين، بغض النظر من هم».
ووصف الدكتور «السويدي»، في كتاب «السراب»، الطريقة التي يتصرف بها المتطرفون باعتبارهم «حكام وحراس وقضاة» على أي فكر بديل، بمحاكم التفتيش في أوروبا، التي طبقت نص الإنجيل حسب تفسيراتها الضيقة. وفي هجوم واضح على التعصب السائد من قبل المتطرفين، استنتج السويدي «أن ذلك هو بالتحديد ما كان ولا يزال تمارسه الجماعات السياسية والدينية في العالمين العربي والإسلامي، التي تسعى لحصر التاريخ في نسخة واحدة والفكر في مدرسة واحدة». من الواضح أن العلماء الذين طالبوا في مؤتمر مراكش بمزيد من الحرية والتعددية في المجتمعات المسلمة، عازمون على عدم الخضوع لمداهنة «داعش» أو السماح لرؤى المتأسلمين الضيقة بأن تحقق نجاحاً دون رد في العالم الإسلامي.