العرب - في العزاء لا يكتفي الناس بالطبطبة على ألم أهل الفقيد فقط، وإنما أيضا يجدون أنها مناسبة جيدة لاستحضار أوجاعهم ومصائبهم، ومحاولة لنسيان أحد كوابيسهم القاتلة، وهي أيضاً فرصة ديمقراطية لإطلاع المعزين على أوضاعهم الملأى بالخوف والرغبة والكثير من العنف النفسي، على الأخص وهم يتحدثون عن كل ما مر بإشكاليات حياتهم المتراكمة من مشاعر لم تترك أثراً طيباً، وإنما خلدت حظرا لمعنى السعادة، من السهل أن يأتي المعزون فيفتحون حقائب حياتهم التي لم تتوقع أن تكون بمثل هذا السوء وقد تركت بؤسا وحسرة، قصص لا يمكن تجاهلها، ولكن يطيب للبعض أن يفتحوا قلوبهم ليتلقوا العزاء هم أيضاً لما حدث لفصول لحياتهم.
أثناء عزاء والدي، رحمه الله وغفر له، تدافع المعزون من كل حدب وصوب، فكان هناك عزاء في مدينتي الخبر حيث أعيش، وعزاء آخر في الأحساء حيث تعود أصولنا القروية، فقد كانت لوالدي صداقات لم تنته بينه وبين أهل قريته والتي أصبحت الآن مدينة من المذهب الشيعي، فكان لا بد لنا من تكريمهم بفتح العزاء واستقبالهم، وأنا أقول ذلك رغم عنصريتي لمذهبي، وانفتاح والدي أكثر مني، والذي لم يكن يجد فرقا بين سني وشيعي، بل كان يرفع صوته عاليا علينا، حين نسمي الأشخاص ونلحقهم بمذهبهم.
ما أود أن أقوله إن منطقة الأحساء التي تقع شرق المملكة العربية السعودية، تعرف بتراحم وتوادد مختلف الطوائف والمذاهب في المدينة والتي شهدت أكثر من انفجار في العام الماضي، بدعوة من خلية داعش لكي تؤسس مذهباً آخر اسمه الكراهية، ولكن مواطني الأحساء كانوا أكثر فهماً ووعياً من أي منطقة أخرى في المملكة، وفهموا الرسالة كما يجب، لذا، فقد اتحدوا جميعهم يداً بيد وشارك أهل السنة مواطنيهم من الشيعة أحزانهم وتألموا لما حدث لهم، لم تثمر تفجيرات داعش أي سوء في الأحساء، ولم تخلف شرخاً في العلاقات الإنسانية بين المواطنين المختلفين فقط في المذاهب، ولكن بقي حسن الأخلاق والجيرة بين الطرفين.
يأتي المعزون ويجدون لذتهم في الحديث عن غربتهم الداخلية، ونظرتهم لما حل بهم من مصائب عراكهم، وبلعت أفراحهم حتى نسوا شكل الفرح، وباتوا يتخيلون معالمه وكأنها مجرد خرافة. يكشف المعزون أوراق حياتهم الخاصة بسهولة، من دون الحاجة حتى لسؤالهم، تبقى نظرتهم واقعية أكثر من اللازم، فتلتزم الصمت أمام مصيبتك في فقدان أعز مخلوق في حياتك ألا وهو والدك.
من القصص التي وقفت أمامها طويلاً، حتى أنني بلعت دموعي وبت أكثر قدرة على امتصاص المشاعر المؤثرة وشديدة القوة إلى روحي، حتى استمعت لقصة السيدة التي جاءت للعزاء وهي لا تقوى على الحراك أو المشي، رغم أنها لم تتجاوز 45 عاماً، لم تكن تتوقف عن البكاء لحظة واحدة، وبدأ حزن هذه السيدة منذ أن تم القبض على ابنها البكر بتهمة الانضمام إلى خلية داعش الإرهابية، ابنها الذي لم يتجاوز عمره الثالثة والعشرين ويدرس الهندسة، وقد كان كما قالت أمه شديد الهدوء والتكتم، وما تذكره أنه طلب أن يذهب برفقة أصدقائه في شهر رمضان لقضاء أوقات في أحد المخيمات، ولم تكن تعلم أنه كان يتلقى دروساً من موالي وعمائم داعش، وبعد شهرين تم القبض على الشاب اليافع، بتهمة الانضمام لخلية داعش، وقد كانت والدته تمتدح برّه الشديد ومحبته العميقة لها، حيث قالت لم أكن أتوقع أن هذا الشاب الطيب الممتلئ بالأخلاق والدين السمح، أن يكون له توجه نحو الإرهاب، وأثارت انتباهي إلى نقطة مهمة جداً، إذ ذكرت أن ابنها في الفترة الأخيرة وعلى الأخص بعد قدومه من المخيم الذي ذهب إليه لعشرة أيام في شهر رمضان الماضي، بات أكثر انعزالاً وصار يقضي الساعات الطوال أمام شاشة الكمبيوتر، وفجأة أطال شعر رأسه، ليتحول إلى ما يشبه الدواعش الذين نرى صورهم في مختلف وسائل الإعلام.
ويبدو أنني أتفق مع ما قاله الأستاذ عبدالعزيز القاسم المحامي والقاضي السابق في برنامج بالمختصر، حينما قال إن داعش اختراقات أمنية وليست اختراقات ثقافية، وهذه الخلية لا يمكن تفسيرها إلا بعلاقتها الوثيقة بالنظام البعثي السوري والنظام الإيراني والروسي، وأضاف أن الأشخاص المجندين في داعش، يمكن أن نطلق عليهم أشخاصا “مكسورين”، تم اختراقهم بطريقة استخبارية، لا دينية ولا دعوية ولا غير ذلك.